من السهل على أي شخص منا أن يقف منتقدا لعيوب شخص معين أو جماعة بعينها، أو إدارة خدمية، أو حكومة بلد باسره. ومن السهل عليه التنظير وتبيان المثالب والعيوب، والتشكيك، وتصوير المؤامرات، التي تحاك بالخلف كعهن العنكبوت، والإتيان بالحلول، التي يراها سهلة ومناسبة لتغيير الأوضاع.

البعض منا ينتقد بتحفظ وسرية عند زمرته الخاصة، والبعض يجاهر بإنتقاده علنا في الجلسات الإجتماعية. والبعض يصل إلى درجات أبعد في نقده حسب المنبر أو القناة، التي يتمكن منها. ففي شبكة الإنترنت نجد آلاف بل مئات الآلاف من المعرفات، التي تزاول الإنتقاد وتنتهجه. البعض منها بالاسم الصريح، والبعض يختبئ خلف اسم رمزي. والبعض يتمكن من الوصول إلى صاحبة الجلالة الصحافة ويزاول النقد الصريح مكتسبا للصدى والشعبية الفاعلة على مستوى أوضح وأوسع. والبعض يقوم بنشر كتب أو كتيبات تحتوي على أرائه النقدية سواء قام بطباعتها في بلده أو في بلد خارجي.

وقد نرى البعض من النقاد المتطرفين ممن إلتجأوا للهجرة من بلدانهم، ليزاولون عملية النقد بشكل قاسي ومكثف من خلال القنوات الأجنبية، حتى أن البعض منهم قد إتخذ له صحيفة أو قناة فضائية يزاول من خلالها النقد بطريقته.

وأنا هنا أود أن أعود للنقد والذي يكمُن معناه لغويا في: بيان أوجه الحسن وأوجه العيب في شىء من الأشياء بعد التمعن في دراسته وفحصه وتجريبه.

ويمكننا القول بأن الفلسفة الحديثة، التي بنيت عليها الحضارة الغربية هي فلسفة نقدية تتم بوضع جميع الأمور على محك الغربلة، والنقد والتمحيص بطرق موضوعية علمية واضحة، وعيون واعية ترمي لمعرفة وحصر المميزات والعيوب في أمر ما.

وعليه يتبين لنا أن النقد متطلب حياتي حضاري إصلاحي مليئ بالخير للشخص والمجتمع والدولة والبلد إذا توفرت في الناقد بعض الصفات منها:
1.المحبة الخالصة للمحيط أوالمجتمع أو الوطن، الذي ينتقده.

2.المعرفة التامة بالمادة المنتقدة والظروف المحيطة بها من جميع الأوجه.
3.عدم وجود رؤية مؤدلجة مسبقة متصلبة، والقدرة على تقبل النظريات البديلة الأخرى مهما كانت معاكسة.
4.الرغبة الحقيقية في الإصلاح، والبعد عن الشر والتخريب.
5.الشجاعة في التراجع عن الرأي حين ظهور ما يبطله.
6.الأدب أو التأدب في أساليب الطرح.
7.عدم وجود نوايا ودوافع وأطماع غير شريفة تحرك عملية النقد.
8.التفاني ونكران المصلحة الشخصية للمصلحة العامة.
9.عدم تزييف الحقائق تملقا لأحدى الجهات.


وحقيقة أن كثير من نقادنا سواء ممن هم على المستوى الإجتماعي الخاص، أو على المستوى العام، يفتقدون لبعض هذه الإشتراطات، فلا يقنعنا نقدهم المر الأعور، الذي يشعرنا أن وراء الأكمة ما ورائها مما تفوح منه الروائح غير الزكية. وأن البعض منهم ممن يتخذون مواقف صارمة سوداء حاسمة غاضبة كارهة مقصية لبلداننا ولشعوبنا وتجعلهم يغردون خارج السرب، الذي نسافر من ضمنه، ولا يتبعهم إلا من في نفوسهم مرض. لأنهم يسعون بنقدهم للشر والفرقة والتشتت والتشرذم، ونشر القلاقل والمحن، وتاليب الناس على بعضها محبة في الدم والفرقة. والبعض منهم يكونون مدفوعين بنوازع شخصية، أو أطماع سياسية، أو حقد على البلد وأهله يجعلنا وإياهم دوما في تضاد دائم.


وأنا لا اقول أن النقد عيبا، بل أنه واجب على كل من رأى منا منكرا، وأنا من أول من يزاولونه. غير أن المحصلة والهدف هما ما يجب أن يتحكما بعملية النقد.
ولا نريد أن نحكم على النوايا، ولكنا بقلوبنا المؤمنة نستشعر الحب من المحبين، ولا يصعب علينا معرفة من ينتقد للفائدة، ومن الذي ينتقد ليشعل بقابسه الفتيل في صهاريج الوقود.
والبعض الآخر من نقادنا الكرام يفيضون بالأدب في طروحاتهم. والمحبة الصافية الخالية من الشوائب في نزعاتهم للوطن والمواطن. ولهم همٌ وحيد هو رفعة الإنسان وسعادته. وهم بهذا يمتلكوننا، ويجعلوننا نتبع ما يروق لنا من طروحاتهم بوعي ومحبة.


النقد كان بالأمس في جميع دولنا العربية محرما، وكان يحدث بالدس، وكان يعاقب فاعله بظلم، حتى أرتبط النقد في عقول العامة بالشذوذ عن الأنظمة ومعاداتها وبمصير لا يبصر الشمس!. ولكن أصحاب البال الأطول هم من إستمروا في حبهم لأوطانهم، ولشعوبهم، ورغبتهم في الإصلاح ورفع مستوى وذائقة النقد حتى صنعوا لنا أمثلة تحتذى في فنون النقد المجدي المنتج، الذي يعري المنتقد دون تجريح ودون تخوين. فلا يؤلبوا شبابنا على بلدانهم، ولا يجندوهم في صفوف الشيطان ضد أهاليهم.
النقد مطلوب، وهو أفضل طريقة للتقدم والإصلاح، طالما كانت قلوبنا على بعض، وفي نفس الوقت تفيض حبا وحرصا على منعة بلدنا الحبيب.