ليس من الصعب ملاحظة أنه في العقود الأربعة الماضية، تفرغ غالبية شيوخ الدين المسلمين، العرب منهم تحديدا، لمهنة يمكن تسميتها (إصدار الفتاوي حسب الطلب)، مما جعلها مهنة عشوائية دخل فيها كل من يريد الشهرة أو (خالف تعرف)، والرصد الموضوعي لإصدارات هذه المهنة لا يتمكن من إحصاء العاملين فيها وما صدر عنهم، لأنّ فتاويهم طالت كل نواحي حياة المسلم الداخلية والخارجية، الظاهرة والباطنة، وأغلبها في باب (الحرام والتحريم)، مما جعل غالبية حياة المسلم حراما، وقد سبق أن رصدت في دراسة بعنوان (فقهاء التجهيل وفتاوي حسب الطلب) في فبراير 2007، عددا هائلا من هذه الفتاوي التي جعلت حياة المسلم مجرد ساحة للحرام فقط، حيث تحريم إهداء زهور، ولعبة كرة القدم، والدروس الخصوصية، والجلوس على الكراسي والآرائك...إلى آخر هذه التحريمات، دخولا إلى فتاوي وفتاوي مضادة، جعلت المسلم في حيرة من أمره، يتساءل: من اتبع منكم يا شيوخ الفتاوي في موضوع ما، عندما تصدر فيه فتوى وفتوى مضادة؟. وحسب العرف السائد في الحياة الإسلامية فمن حق المسلم العادي غير المتبحر في علوم الفقه أن يطبق الفتوى أو الفتوى المضادة في الموضوع ذاته، وشعاره (خطيتي في رقبتك)، أي في رقبة الشيخ الذي أصدر الفتوى، لأن المسلم العادي غير مؤهل لتمحيص الفتاوي طالما المتخصصون مختلفون حولها.

فتوى ارضاع الكبير مثلا

التي أصدرها في مايو 2007 تقريبا الدكتور عزت عطية رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، حيث سمح للسيدة العاملة أن تقوم بإرضاع زميلها في العمل منعا للخلوة المحرمة، إذا كان وجودهما في غرفة مغلقة لا يفتح بابها إلا بواسطة أحدهما. ووضّح فتواه قائلا quot; إنّ إرضاع الكبير يكون خمس رضعات وهو يبيح الخلوة ولا يحرّم الزواج، وأنّ المرأة في العمل يمكنها أن تخلع الحجاب أو تكشف شعرها أمام من أرضعتهquot;. وقد رفض العديد من الشيوخ هذه الفتوى، ومنهم الشيخ السيد عسكر الوكيل الأسبق لمجمع البحوث الإسلامية، أعلى هيئة فقهية في الأزهر، معتبرا أنها خروج على إجماع علماء الأمة ولا يجوز القياس على حالة خاصة. وهو يقصد بهذه الحالة الخاصة السيدة عائشة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، التي تتلخص كما وردت في غالبية كتب الحديث بأن (جاءت سهلة بنت سهيل وهي امرأة أبي حذيفة وهي من بني عامر من لؤي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله كنا نرى سالما ولدا وكان يدخل علي وأنا فضل، وليس لنا إلا بيت واحد فماذا ترى في شأنه؟؟. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها. وكانت تراه ابنا من الرضاعة فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال). وبعد أن سرت الفتوى سريان النار في الهشيم ما عاد ذو فائدة اعتذار الدكتور عزت عطية عنها، فأنا وغيري لا نفهم هكذا اعتذار من متخصص مثله إلا أنه لتفادي الزوابع التي أثيرت ضده، مما نتج عنها فقده لوظيفته. رغم أنّ هذاالحديث ينسب فيما يتعلق به لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال (إنّ الرضاع يعتبر في الصغر، إلا ما دعت اليه الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله إلى المرأة، ويشق احتجابهاعنه، كحال سالم مع إمرأة أبي حذيفة، فيكون في مثله مؤثرا، وأما ما عداه فلا بد من الصغر).

و عاد الشيخ العبيكان من جديد
لفتوى ارضاع الكبير، و بعد الضجة التي أثيرت حول ما قاله بصددها، وضع شرحا جديدا لها مفاده (أنّ إرضاع الكبير لا يكون بأن تلقم المرأة الرجل من ثديها مباشرة، وإنما يسقى بخمس رضعات مشبعات للصغير...تحلب له من ثديها في إناء ويشربه خمس رضعات مشبعات للصغير). وهنا يثار تساؤل جديد: الكبير الذي سوف يسقى تلك الرضعات الخمس المشبعات، كيف سيتأكد أنّ هذا الحليب من ثدي المرأة أم ضحكت عليه وجلبت له حليب quot;نيدوquot;مجفف؟ ألا يحق له أن ينظر بعينيه ويتأملها وهي تضخ الحليب من ثديها مباشرة في الإناء، كي يطمئن أنه سيشرب حليبا حلالا من ثديها حسب النصوص الشرعية؟.

وكذلك ملالي إيران،

دخلوا سوق الفتاوي بقوة أشدّ من من قوة الملف النووي الإيراني، فقد أصدر حجة الإسلام كاظمي صادقي فتوى تبرر الزلازل والفيضانات التي تحدث في العالم (بأنها بسبب الفساد الأخلاقي والبغاء والزنا واستشراء الرذيلة في أنحاء طهران، وذلك نتيجة لارتداء ملابس غير محتشمة من قبل النساء إذ يريد الله معاقبتهن كمذنبات). وفي هذا السياق ما هو ذنب الأطفال والرجال الذين يموتون في الزلازل والفيضانات يا حجة الإسلام طالما العقوبة الإلهية موجهة للنساء المذنبات؟. ولماذا لم نسمع من حجتكم فتوى ضد قرار الحكومة الإيرانية الذي نشرته الصحافة الإيرانية في أكتوبر 2009، ومفاده: (قررت الحكومة الإيرانية نشر بيوت الزواج المؤقت، أو ما يعرف باسم زواج المتعة ليوم واحد في الشوارع والأحياء، للقضاء على مشاكل الاغتصاب والكبت الجنسي الذي يعاني منه الشباب الإيراني). هذا وقد أطلقت بعض مصادر النظام الإيراني على هذه البيوت اسم (بيوت العفاف) وهي منتشرة بالمئات في العاصمة طهران، وتحظى بحماية قوى الأمن الداخلي. اي لماذا لم تصدر فتوى بتحريم هذه البيوت العفيفة كي لا تؤدي لاحقا لوقوع الزلازل والبراكين؟.

فتاوي تحلل وفتاوي تحرّم

فتوى ارضاع الكبير مجرد مثال لهذا التخبط والعشوائية فيما أصبح من الموضوعية تسميته (سوق الفتاوي)، فلا أعتقد أنّ هناك مسألة في حياة المسلم الظاهرة والباطنة، إلا وصدرت فيها فتوى وفتوى مضادة، فأية فتوى يتبع المسلم؟ الفتوى التي تحلل أم الفتوى التي تحرّم؟.تقديم الزهور حلال أم حرام؟ حرام لماذا؟ ومن يتضرّر عندما أقدم زهورا لصديق أو صديقة تعبيرا عن الرحمة والمحبة والمودة التي هي من خصال الإسلام؟. quot;بعثت لأتمم مكارم الأخلاقquot;. هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أفليس في تقديم الزهور مثال على خلق رفيع بدلا من تقديم سيف قاتل؟. الدروس الخصوصية حلال أم حرام؟.ماالحرام في جلب مدرس خصوصي لتقوية ابني في مادة الرياضيات أو اللغة الإنجليزية إن كان ضعيفا في واحدة منها؟ أليس صحيحا أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف؟ فلماذا يحرّم بعض الشيوخ الدروس الخصوصية؟ وهناك عشرات الأمثلة في هذا السوق الفوضوي الذي جعلها فعلا quot;فتاوي تيك أويquot; أو quot;فتاوي حسب الطلبquot;.

وقياسا على هذه الفوضى اليكم هذه الفتوى

أنا دارس لمساقات عديدة في الشريعة الإسلامية، بالإضافة لتخصصي في اللغة العربية وآدابها في جامعتي القاهرة والإسكندرية، وحاصل على درجة الدكتوراة في الآداب من جامعة الإسكندرية عام 1979، ومارست التدريس في أكثر من جامعة عربية، والبحوث في مراكز عربية متخصصة، ولما تأكدت أن غالبية شيوخ الفتاوي هذه من أصحاب الملايين، وأنا لست أقلّ منهم علما بأمور الشريعة الإسلامية، فأنا بصدد قرار التوقف عن الكتابة في شؤون السياسة والثقافة التي (ما بيتوكل عيش)، وأتفرغ للفتاوي، وإليكم بداية خيراتي في الفتاوي:

فتوى بتحريم ومنع أغنية

شاعت في الفترة الأخيرة أغنية جميلة رائعة رومانسية لدرجة أنني ترجمتها لصديقتي النرويجية الشقراء المثيرة أكثر من الأغنية، فأعجبت بكلماتها وصارت تستمع لها مستمتعة بموسيقاها رغم عدم فهمها المباشر لكلماتها العربية. هذه هي أغنية المطرب اللبناني جهاد محفوظ التي اشتهرت باسم (لون السما) من كلمات نزار فرنسيس وألحان رواد رعد وتوزيع الموسيقى لداني حلو. تقول كلمات الأغنية:

مش عاجبك لون السما بمحيها برجع برسما
مش عاجبك لون السما بمحيها برجع برسما
مش عاجبك لون السما بمحيها برجع برسما
توقع نجوما بلملما المهم انتي تضحكي لا تزعلي
عيشي الهنا وغلي بدفا
قلبي أنا عيونك بروحي بحضنا
وعم إسمعك قبل الحكي
توقع نجوما بلملما
المهم انتي تضحكي

وفتواي الإسكيندينافية تقول:
quot;هذه الأغنية حرام ويجب التوقف عن غنائها وترديدها، خاصة المقطع الذي يقول quot; مش عاجبك لون السما بمحيها برجع برسمهاquot;، لأن في هذا المقطع تعدي على الذات الإلهية، فالله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض على هذه الشاكلة، وبهذه الألوان، وبالتالي فليس من حق أحد أن يقول أنه قادر على محو لون السماء وإعادة تلوينها حسب ذوقه ومزاج حبيبتهquot;. وكذلك المقطع الذي يقول quot;توقع نجوم السما بلملما. المهم انتي تضحكيquot;. فمن هو الشخص القادر على لملمة نجوم السما التي خلقها الله تعالي بالملايين؟quot;. فما رأيكم جمهور المستمعين، دام فضلكم؟. وخشيتي أنّ هذه الفتوى سوف تزيد من إعجاب المستمعين بالأغنية وكلماتها الرومانسية العاطفية المؤثرة، وبصراحة أنا واحد من هؤلاء سوف يزداد سماعي لها نهارا وليلا وأنا أتأمل نجوم السما المعبرة عن قدرة الخالق، واضعا كلمات الأغنية ضمن سياقها البلاغي الجميل الذي لا تعدي فيه على قدرة الله تعالى، فقد تعلمنا من حديث الرسول quot;أنّ الله جميل يحب الجمال quot;، والجمال يدخل فيه جمال الكلمات بدليل قول الرسولquot;الكلمة الطيبة صدقةquot;، فكم من الصدقات في هذه الكلمات التي تزيد الإلفة والمحبة والود بين الحبيب وحبيبته والزوج وزوجته والصديق وصديقته؟.

أين شيوخ الفتاوي من ضرورات حياتنا وتقدمنا؟

فوضى فتاوي شيوخنا هداهم الله، تبدو كارثية عندما نتذكر هروبهم من أية فتوى تحثّ على التقدم والإنسانية والتعلم، فمثلا:
-لماذا لا نسمع فتوى منهم عن تحريم وجود المسلم الأمي الذي لا يجيد القراءة والكتابة، في زمن أصبح التعليم متاحا للجميع، وللمفارقة في أمريكا وأوربا منذ خمسة وعشرين عاما، أصبح تعريف الأمي هو من لا يجيد استخدام الكومبيوتر؟.

لماذا لا نسمع فتوى تحرّم استخدام الخادمات والشغالات والسائقين الأجانب في البيوت إلا لمن هو في حاجة صحية ضرورية لذلك؟. أليس حراما وتبذيرا وجود أكثر من خادمة وسائق في غالبية البيوت في دول الخليج العربي؟ أليس هذا تبذير، والله هو القائل: (إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين). هل يعرف شيوخ الفتاوي أنه في الدول الإسكيندينافية ممنوع على الوزير ورئيس الوزراء وأي مواطن استعمال خادمة في بيته أو مكتبه؟. ومن كان في وضع صحي يتطلب مساعدة في المنزل، فهناك مكاتب متخصصة ترسل له شخص مرة في الإسبوع لساعتين أو ثلاثة تساعده مقابل أجر معين حسب عدد الساعات؟. أليس هذا هو تطبيق الإسلام الحقيقي؟

لماذا لا نسمع فتوى تحرّم ادعاء الطلاق بين الزوج وزوجته عند مسؤولي الضمان الاجتماعي كي يحصلا على شقة اضافية يؤجرونها في السرّ كما أوضحت في مقالة سابقة؟.

لماذا لا نسمع فتوى تحثّ حكامنا على أن يتقوا الله فينا، ويمارسوا العدل ويحاربوا الفساد، وبعكس ذلك في ملايين المساجد يدعو شيوخنا كل يوم جمعة لطاعة ولي الأمر ونصره على أعدائه، وهم يعرفون أن الشعوب في الغالب هم أعداؤه؟.

وأمور كثيرة في حياتنا تضعنا في عداد الدول المتخلفة والفاشلة، لا يعيرها شيوخ الفتاوي اهتماما، فهم مشغولون بإرضاع الكبير والتداوي ببول الإبل وتحريم تقديم الزهور ولعبة كرة القدم. لذلك أقول: أفيقوا من هذه الملهاة المضحكة، وتفرغوا لما فيه تقدم الشعوب وحضارتها بدلا من اعتمادنا على الأوربيين والأمريكان والصينيين واليابانيين في كل مجالات حياتنا بما فيها ملابسنا الشعبية التي نفتخر بها وهي صناعة صينية في الغالب.
[email protected]