العمليات التي قام بها الجيش الإسرائيلي منذ أيام قليلة ضد بواخر مدنية، تنقل مساعدات إنسانية لقطاع غزة المحاصر منذ ثلاثة سنوات، عملية قرصنة إجرامية بكل معاني الكلمة، خاصة أنها تمت في المياه الدولية التي لا يحق لأية دولة التعرض لأية بواخر فيها حتى لو كانت عسكرية محملة بالأسلحة. وحسب كافة الشهادات والصور الحية بما فيها شهادات إسرائيليين، فإن حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة بامتياز لا مثيل له، خططت وقصدت القيام بهذه العملية الإجرامية لتحقيق مكاسب انتخابية داخلية، وتحديات خارجية موجهة للشعب الفلسطيني أولا والرأي العام الدولي ثانيا، الذي لا يملك كما رأينا سوى بيانات التنديد الشفهية أو استدعاء السفراء أحيانا نادرة، دون أدنى تأثير على علاقات تلك الدول بدولة إسرائيل التي هي الوحيدة في العالم التي لا تعير اهتماما أو إحتراما للرأي العام العالمي، كما أنها الوحيدة في الكرة الأرضية التي لا حدود لها، بمعنى أنها حدود مفتوحة لاستيعاب ما تستطيعه قوتها العسكرية، فحتى الآن ضمن حدودها الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية المحتلة، وما لا يقل عن عشرين بالمائة من مساحة الضفة الغربية التي تلتهمها المستوطنات الرسمية التي يتم بناؤها بقرارات وتمويل من الدولة الإسرائيلية. وبالتالي فلا يعرف الفلسطينيون والعرب والعالم ماهي الحدود التي تريدها هذه الدولة، خاصة بعد اعتراف غالبية المنظمات والسلطة الفلسطينية بدولة مستقلة ضمن حدود عام 1967، أي على ما لا يزيد عن عشرين بالمائة من مجموع مساحة فلسطين التاريخية المحتلة التي أقيمت عليها دولة إسرائيل قبل 62 عاما.
إنّ هذه الجريمة البشعة لن تمرّ بدون تداعيات ونتائج سلبية على الدولة الإسرائيلية قبل غيرها، التي أعتقد أن قياداتها وحكوماتها المتتالية هي أكثر ما يسيء لها، ويضعها دوما في حالة الخطر والحرب الدائمة، وهي حالة لم تعشها دولة على مرّ مراحل التاريخ، خاصة بعد المبادرة العربية الجماعية للسلام عام 2000 التي أعلنت دولة الكويت انسحابها من هذه المبادرة ردا على هذه القرصنة، والمعروف أنّ المبادرة العربية غير مسبوقة، إلا أن جرائم دولة إسرائيل المتتالية والمتصاعدة، جعلتها مبادرة غير سارية المفعول عربيا: حكوميا وجماهيريا. ويكفي أنّ بعض الإدانات الإسرائيلية لهذه القرصنة في قوة الإدانات العالمية، فقد كتب quot; آري شافيتquot; في صحيفة هاآرتس يقول: (أسئلة لا نهاية لها تطرح. ماذا حدث للقدرة على الابتكار التي تفاخر بها إسرائيل؟ لماذا تمّ اعتماد أسوأ الاختيارات الممكنة؟ أين كان رئيس هيئة الأركان؟ أين كانت أجهزة الاستخبارات؟. لماذا لم نستطع أن نرى أننا لم نكن نشدد الحصار على غزة، بل كنا نشدد الحصار على أنفسنا). أما الكاتبquot;بين كاسيتquot; فقد وصف عملية القرصنة بأنها غباء مطلق. كما أنّ شهادات المتضامنين الأوربيين والأتراك والعرب عما تعرضوا له لا يمكن وجوده في أفلام الرعب الهوليودية، حيث الاعتداءات العسكرية الوحشية على مدنيين مسالمين ومن بينهم رجال دين مسيحي مثل المطران كبوتشي البالغ من العمر 84 عاما ويحمل جوزار سفر الفاتيكان، ومصيره مجهول حتى هذه اللحظة خاصة أنّ إسرائيل سبق لها سجنه وطرده من فلسطين، ومن بينهم أيضا سفير أمريكي سابق ومئات الأوربيين من العديد من الجنسيات، فهل كل هؤلاء مسلحين جاءوا للقيام بعمليات عسكرية، أم للتضامن الإنساني مع شعب محاصر؟.
ما هي أهم تداعيات هذه القرصنة؟
أولا: فقدان أي أمل في سلام قادم في المنطقة، ويكفي أنه بعد ما لايقل عن عشرة سنوات من المفاوضات المباشرة بين دولة إسرائيل والسلطة الفلسطينية، دون أي تراجع في الموقف الإسرائيلي، تسعى أطراف دولية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية لرعاية مفاوضات غير مباشرة. فإذا كانت المفاوضات المباشرة لم ينتج عنها أي انجاز على الأرض، فكم عشرات السنوات تحتاج المفاوضات غير المباشرة. وقد جربت سوريا المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل بوساطة تركية لعدة سنوات دون فائدة، رغم أن الوضع السوري أسهل بكثير منه في فلسطين، فسوريا لها مطلب واحد مقابل السلام وهو الانسحاب الإسرائيلي من جولانها المحتل منذ عام 1967، وهو مطلب وطني وقانوني وأخلاقي لا يحتاج لمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، بل رضوخ إسرائيلي للقانون الدولي الذي لا يقبل أي احتلال. وبالتالي فالمنطقة العربية ستبقى لسنوات طويلة مهددة بالقلاقل والحروب والانتفاضات التي ستلحق بإسرائيل خسائر أكثر من غيرها، لأن الفلسطينيين والعرب كما يقول المثل (خد وتعود على اللطيمة)، كما أنه مهما قتلت إسرائيل من الفلسطينيين والعرب، فلن يؤثر ذلك على وجودهم البشري الكثيف المتصاعد في أوطانهم التاريخية، وإسرائيل تعي أن الخطر المنوي هو الذي يهددها وليس النووي، لذلك فهروبها من استحقاقات السلام العادل والدائم لن يجر الويلات إلإ عليها دون غيرها، فهل تدرك الحكومات الإسرائيلية ذلك قبل فوات الأوان؟
والحقيقة التي بات يدركها الجميع بما فيهم مؤيدو دولة إسرائيل، أن هذه الدولة هي التي تعيق أية خطط سلام رغم كل التنازلات الفلسطينية، وبالتالي من المهم تذكر مقولة ديفيد بن جوريون في مذكراته التي مفادها: أن دولة إسرائيل لا يوحدها إلا الشعور بالخطر، فعلى إسرائيل شنّ حرب كل عشر سنوات إن لم تفرض عليها. وهنا السؤال المركزي: ما هو مستقبل دولة تعيش في حروب متواصلة منذ ستين عاما؟ ومرشحة بسياساتها المتنكرة لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني والجوار العربي لحروب طويلة ممتدة لعشرات سنين قادمة. إنّ هذه الغطرسة الإسرائيلية في النهاية لن تلحق الخطر إلا بدولة إسرائيل خاصة وسط تنامي الغضب الفلسطيني والعربي والإسلامي والعديد من الدول الأوربية، مما يجعلها حقيقة كدولة معزولة منبوذة أو هي المحاصرة فعلا كما قال الكاتب الإسرائيلي آري شافيت.
وأيضا من المهم ملاحظة أن هذه القرصنة والجريمة الإسرائيلية ليست الوحيدة التي قامت بها الدولة الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني والمتضامنين معه، لكنها أوقح العمليات وشكلت ما يمكن تسميته تسونامي سياسي إعلامي ضد ممارساتها الإجرامية بسبب وجود متضامنين أوربيين وأمريكيين ممن تعرضوا للقرصنة الجديدة، أما القرصنات الإسرائيلية المتكررة ضد الشعب الفلسطيني ومدنييه والمتضامنين المسالمين معه، فلم تشهد سابقا هكذا تسونامي ناقد لدولة إسرائيل. فمن ينسى دهس دباباتها للمتضامنة الأمريكية المدنية الشابة (راشيل كوري) في 16 مارس من عام 2003، وهي في الثالثة والعشرين من عمرها، تحاول بصدرها منع الدبابات الإسرائيلية من هدم منزل لاجىء فلسطيني في مدينة رفح؟ وكان يعلم قائد الدبابة الإسرائيلية أنها أمريكية لكنه قتلها متعمدا بغطرسة وهمجية لا مثيل لها. وتفاعل الرأي العام الأمريكي ضد هذه الجريمة، حيث تمّ عرض مسرحية في أكتوبر من عام 2006 بعنوان(اسمي راشيل كوري)، وأدت المسرحية سيدة واحدة، حيث يعتمد النص على يوميات ورسائل البريد الإليكتروني لراشيل كوري أثناء وجودها التضامني في مدينة رفح. واستمر عرض المسرحية عدة شهور في أكثر من مدينة أمريكية، ومنها انتقل العرض لمدينة لندن، ونشرت عائلة كوري في يونيو 2004 رسالة وصلتها من جيمس ويلكرسون كبير موظفي وزارة الخارجية الأمريكية، يقول فيهاquot; إن الحكومة الأمريكية لا تعتبر التحقيق الإسرائيلي كاملا أو موثوقا بهquot;. والسفير الإسرائيلي في لندن رون بروسور اعتبر quot; التدخل العسكري الإسرائيلي لاعتراض سفن المساعدات التي كانت في طريقها إلى قطاع غزة لم يكن موفقاquot;.
ثانيا: تصاعد الدور والنفوذ التركي
تصاعد اللهجة العدائية التركية الرسمية والشعبية ضد ممارسات القرصنة الإسرائيلية، خاصة أن عملية القرصنة الأساسية كانت ضد الباخرة التركية (مرمرة) وغالبية القتلى من المشاركين المدنيين الأتراك، لذلك كانت تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان غير مسبوقة في غضبها وعدائيتها لدولة إسرائيل التي تقيم معها تركيا علاقات دبلوماسية وعسكرية واقتصادية، مما استدعى اتصالات هاتفية من طرف الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع رئيس الوزراء التركي أردوغان لبحث الموقف المتصاعد كراهية وغضبا بين تركيا وإسرائيل.. يترافق ذلك مع انعدام أي أمل تركي في دخول الإتحاد الأوربي الذي يدرس طلب انضمام تركيا منذ تأسيسه في عام 1957 أي من قبل أكثر من نصف قرن، ولا غرابة في ذلك فمجلس التعاون الخليجي العربي يدرس انضمام اليمن له منذ عام 1981 دون أي أمل أيضا. إنّ انعدام الأمل التركي أوربيا سيجعل تركيا خاصة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي، أن تبحث عن مناطق تعاون وتنسيق وتحالف جديدة، والأهم لها هي دول محيطها العربي، وقد أخذت تركيا خطوات ميدانية مهمة مثل إلغاء تأشيرات الدخول بينها وبين سوريا والأردن وليبيا، رغم وجود تأشيرة الدخول المسبقة بين العديد من الدول العربية ذاتها. إلا أنه في الوقت ذاته لا أعتقد أن العلاقات التركية الإسرائيلية سيطرأ عليها أي تراجع سلبي جذري رغم الخطابات التركية المعادية والمنددة، بمعنى لن يتم تقليص التمثيل الدبلوماسي أو الغاء اتفاقيات التعاون العسكري والاقتصادي والأمني، وليس مطلوبا من تركيا ما لا تستطيع دول عربية القيام به. لذلك فاجتماع وزراء الخارجية العرب الطارىء يوم الأربعاء الموافق الثاني من يونيو لم ينتج عنه كالعادة سوى بيانات تنديد تعودنا عليها منذ نصف قرن، وتكاد تكون نفس الصيغة يطرأ عليها تغيير في مناسبة الاجتماع فقط، والأخير حضره السفير التركي في القاهرة ضمن تقليد حضور أحمدي نجاد أو مندوب إيراني آخر لقمم عربية.
ثالثا: الموقف المصري وفتح معبر رفح
كان القرار المصري الخاص بفتح معبر رفح بين قطاع غزة ومصر في الاتجاهين لأجل غير محدد، قرارا إنسانيا وشجاعا رغم ارتباط مصر باتفاقية المعابر الموقعة عام 2005 التي تنصّ على تنسيق فلسطيني مصري دولي على المعابر، لأن القرصنة الإسرائيلية ضد أسطول الحرية المدني المسالم، ما كان يتوقع استقبالها بسكوت مصري، لذلك ففتح معبر رفح في الاتجاهين ولأجل غير محدد، يعني تحديا واضحا للقرصنة الإسرائيلية، ودعما لفك الحصار عن القطاع، وهذه مسؤولية سياسية وأخلاقية من الجانب المصري، من المتوقع أن تسهم كثيرا في تلبية الاحتياجات الإنسانية لسكان القطاع، ومن المتوقع استمرار فتح المعبر كما كان يوميا قبل ثلاثة سنوات، وهذا يعني ضربة مصرية مؤلمة للحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، خاصة أنّ الحدود المصرية هي الوحيدة للقطاع مع العالم. وفي هذا السياق مطلوب من حماس أن تتقاعل ايجابيا مع ورقة المصالحة المصرية التي وافقت عليها كل الفصائل الفلسطينية، وأنّ تكف عن مناوشاتها الإعلامية واستفزازاتها ضد الجانب المصري مستقوية بمواقف الإخوان المسلمين المصريين، فما يربط القطاع بمصر لا يمكن فكّه بسهولة.
وأخيرا..ما هو المتوقع فلسطينيا ردا على هذه القرصنة؟
هذا التضامن العربي والدولي غير المسبوق مع الشعب الفلسطيني، والتنديد الغاضب عالميا بالقرصنة الإسرائيلية، هل يفرض على الفصائل الفلسطينية خاصة فتح وحماس أن تتضامن مع شعبها عبر توحدها وانهاء الانقسام الفلسطيني غير المبرر، الذي يدخل عامه الرابع رغم عدم الاختلاف في البرنامجين السياسيين بين حكومة حماس والسلطة الفلسطينية، ولا اختلاف في ممارساتهما أيضا ضد بعض في القطاع والضفة، وبالتالي يتساءل الفلسطيني الذي يذوق العذاب يوميا: على ماذا يختلفون سوى المصالح الشخصية والتنظيمية. هل ترتقي حركة حماس والسلطة الفلسطينية لمستوى هذا التضامن الدولي مع شعبهما، فيتضامنان لإعلان وحدة وطنية حقيقية ديمقراطية، قبل أن تمرّ الذكر السنوية الرابعة لانقسامهما المخزي؟.
[email protected]
التعليقات