سبق لي وأن نشرت في 4/9/2010 كلمة تحت عنوان quot; العرب والمسلمون ونذر التفكك والزوالquot;؛ وكان ذلك جوابا عن تساؤل مزمن ظل مهملا لسنوات طويلة وهو: (لماذا تخلف العرب والمسلمون عن ركب التقدم المدني والحضاري وقد إمتلكوا جميع عناصره البشرية والمادية ؟). وقد رد علىَّ بعض المعنيين بشؤون الفكر والسياسة ملمحين الى أن ما جاء في كلمتي تلك ربما تجاوز حدود ألإستقراء الى التنبؤ الذي فيه من التصورات اوالتمنيات أكثر مما فيه من الوقائع المؤكد حدوثها.
ولم يكن هذا الكلام مفاجئا أبدا. فقد إعتاد كثير من القيادات والنخب العربية المسايرة؛ ولسنين طويلة؛ على الإنكار والقفز من فوق الحقائق وعدم مواجهتها بشجاعة؛ حتى صار مثل هذا السلوك عادة متأصلة في النفوس. ولعل اوضح دليل على تلك الظاهرة المرضية ما نراه من هذا الإضطراب والشلل في تفكير وممارسات تلك النخب إتجاه ما يجري في طول البلاد العربية وعرضها من كوارث ومآس منذ عقود طويلة وحتى اليوم؛ من ابرزها ضياع فلسطين واحتلال العراق وبوادر تفكيكه وبيعه كـ (خردة)؛ وأحتلال أجزاء من سوريا ولبنان. وكذلك مشاريع تفكيك السودان واليمن ولبنان وفلسطين ثانية (تجزئة المجزأ) وكثير من اقطار الخليج التي فرط حكامها ونخبها بسيادتها فضيعوا هوياتها القومية والوطنية. وكذلك بوادر نشوب حروب إثنية اوطائفية اومذهبية اوسياسية بين شعوبها. والحبل على الجرار. والواقع، فانه لو حصل عشر معشار مصائبنا في اكثر البلدان تخلفا وبؤسا لأنتفضت نخبها ولجعلت من شعوبها براكين ثائرة؛ ولوضع حكماؤها حدا لتلك الفوضى.
ومن المؤسف القول بان معظم الذين كاتبوني قد إتكأوا على نفس الحجج التقليدية التي إتخذت منها في كلمتي السابقة عوامل حاسمة في جر ألأمة العربية؛ كفكر وكحضارة؛ نحو المجهول الذي سينتهي بها الى الزوال إن هي بقيت حبيسة الحلقة الجاهلية الشريرة التي ما فتئت تدور؛ وبعناد شديد؛ داخل محيطها المتحجر طوال قرون عديدة حيث بات العرب يحصدون مآسيها كل حين.
ولا شك؛ أن الحكم العربي الإسلامي قد مر خلال القرون الطويلة الماضية في فترات قصيرة اعتبرها كثير من المؤرخين والمفكرين العرب وألأجانب فترات ذهبية؛ حيث ازدهرت فيها الفلسفة والعلوم الطبيعية وعلوم اللغة وألآداب والفنون والعمارة والصنايع؛ وسواء تم ذلك في ديارهم او في البلدان التي فتحوها، وخصوصا في القرنين الثالث والرابع للهجرة؛ واللذين يمثلان عصر الإنجازات الكبرى على وجه العموم.
لكن تلك الفترات التي مرت سراعا لم تترك أثرا ايجابيا تراكميا وحيويا في الفكر العربي القديم والمعاصرلإسباب موضوعية لا مجال لتفصيلها. والأدلة على ذلك لاتحصى إذ نرى آثارها اليوم في هذا التخلف الشامل وفي الخلل المؤسسي الخطير الذي نشاهده في كل مكان.
وسوف أبحث في كلمتي هذه العوامل الرئيسة التي صاغت الشخصية العربية (والأسلامية الى حد ما) وشكلت الفكر السياسي العربي على هذا النحو المضطرب المتخلف الذي ظل عاجزا عن إرساء حكم إنساني وعصري مع شديد الأسف؛ محاولا ردها الى اصولها الجاهلية الأولى.
ولم اكن مبتدعا لهذه المقاربة في الدرس والتحليل. فقد كان (عبد الرحمن بن خلدون) اول عالم اجتماع عربي تطرق الى هذا الموضوع؛ حيث أشار الى الصراع القائم بين حياة البداوة والحياة الحضرية للعرب. ثم جاء عالم الإجتماع العراقي المعروف (علي الوردي) ليتابع تلك الدراسة المهمة؛ حيث طبق العديد من آلياتها على المجتمع العراقي فخرج الينا بنتائج في غاية الأهمية.
لكنني اضفت وأشرت في كلمتي الى بعض العناصر وألأدوات الأخرى التي فعلت فعلها في توهين حركة الفكر العربي المعاصر؛ على ضعفه وتشتته؛ منها الدور السلبي الخطير الذي مارسه جمهور واسع من النخب الدينية والثقافية والسياسية والعسكرية، ثم التدخل الأجنبي في شؤون الحكم؛ يأتي في مقدمته النفوذ الفارسي المتسلح بفكر قومي متعصب وثأري تحت شعارات إسلامية مليئة بالخرافات والممارسات المنفرة والتي أساءت الى الإسلام والى آل البيت بخاصة. ومن ثم مجيء الإحتلال المغولي والتتري والعثماني الى المنطقة حيث عمل على الإمعان في تدمير البلد. وأخيرا جاء ألإحتلال البريطاني للعراق أثناء الحرب العالمية الأولى ليزيد الطين بلة.
ولقد حاولت الإفادة من تلك العوامل بإعتبارها عوامل أساسية ومؤثرة في ذلك الوهن الذي أصاب الفكرالعربي عموما. لكن العامل ألأكثر حسما كان لدور القيادات الحاكمة الهزيلة وللنخب الدينية والسياسية والعسكرية الطفيلية التي كانت وما تزال تقدم الدعم المادي والمعنوي للسلطة وبمختلف الوسائل الممكنة؛ سعيا وراء المنافع الخاصة او خدمة لتقاويم اجنبية؛ مما خلق بيئة هشة ومنخورة سهلت على القوى ألأجنبية المختلفة التحكم في مصير الأمة وبمقدراتها لسنوات طويلة.
وانه لمن الجدير بالأهمية ان نلخص العوامل الذاتية التي جعلت الكثيرمن القيادات والنخب العربية عناصر خائرة ومشلولة حتى فقدت ألإرادة على العمل الذاتي المستقل من أجل بناء مجتمع عصري. كما عجزت عن إدراك فضائل التغيير والإبداع لإستشراف المستقبل والإنفتاح على العالم المتقدم للتفاعل معه تفاعلا إيجابيا خلاقا.
ولقد رأينا ايضا قطاعا كبيرا من القيادات والنخب المتطفلة من استساغ طعم التبعية للنفوذ الأجنبي الذي وفر لهم الجلوس على كراسي الحكم في الظاهر ليحركهم ويلعب بإرادتهم من الباطن كيفما يشاء. كما شجع ومكن ضعاف النفوس من ممارسة حياة الترف والبذخ المنفلت الذي اصبح مدعاة للإزدراء من قبل شعوبهم ومن قبل العالم المتحضر. كما تغاضى عن البعض الآخر الذي أمعن في سرقة المال العام ونشر المفاسد في المجتمع تحت عباءة الدين؛ ولغرض مكشوف وهو الإثراء غير المشروع؛ فضلا عن ألإساءة الى العقيدة الإسلامية وتشويه سمعة العرب.
والحقيقة، فان اي باحث ينظر بتمعن في البنية الفكرية والإجتماعية والثقافية للحكام العرب وللنخب السائرة في ركابهم لا بد وان يأخذه العجب لهذا التماثل البنيوي والسلوكي المثير بينهم وبين رؤساء القبائل وبطانتهم في العصرالجاهلي الأول. وقد يتعرض الى صدمة شديدة إن هو حاول معرفة الكيفية التي تمكن فيها هؤلاء الحكام من شطب الزمان والمكان، فتمكنوا من القفز فوق الحقبة الإسلامية الزاهرة والحقب التي اعقبتها ليظهروا فجأة في القرن الواحد والعشرين؛ فيطووا بذلك أربعة عشر قرنا كما يُطوىَ بساط أحمرلإستقبال وفد رسمي رفيع.
ونحن حين ننظر الى الغالبية من حكامنا الحاليين ونستمع اليهم وهم يتحدثون ويتناقشون في شوؤون ألأمة او في العلاقات الدولية؛ نرى ما يثير العجب والحسرة والقرف. فكم تمنينا لو كان بالإمكان استبدالهم بأبي سفيان او أبي جهل او أبي لهب الذين تميزوا بالدراية وبالفطنة وبفصاحة اللسان وسحر البيان على الرغم من جاهليتهم.
ومن المعروف تأريخيا أن عرب الجاهلية كانت تحكمهم تقاليد القبيلة التي ورثوها أبا عن جد ومن قديم الزمان. وكان من ابرز عناصرها ان يرأس القبيلة أحد ابنائها وفق شروط وطقوس خاصة. ولرئيس القبيلة الولاية المطلقة؛ وطاعته واجبة. فهو؛ إذا؛ مصون وغير مسؤول كما يقال اليوم. ويورث الرياسة الى احد ابنائه او الى أحد من اهله في حال حصول فراغ. ويديرالرئيس شؤونها كيفما يشاء. وهو الذي يتحكم بالثروات وبالقرارت وألأحكام وتطبيق الحدود حتى وإن استشار كبار القوم. وللرئيس أيضا الحق المطلق بالتمتع بالنساء كيفما يشتهي ومع من يقع عليها ألإختيار؛ زوجة كانت او أمة. فالجنس لديهم من المتع المحببة التي لا تعادلها متعة أخرى. وهو الذي يهب العطايا اويمنعها برغبته. كما يمتلك حق إعلان الحرب اوالهدنة او الإستسلام. فإن كسب الحرب فله ولمقربيه حصة الأسد من الغنائم؛ سواء كانت سبايا من النساء او أموالا او عينيات.
اما افراد القبيلة فهم يؤلفون كيانها الإجتماعي الأساس وفق نظام هرمي يتربع على قمته الرئيس وبطانته. ثم تأتي الفئات ألأخرى بحسب أنسابهم ونفوذهم ومهاراتهم. ففي المقدمة يأتي قادة الجيش وخبراؤه واصحاب الثروات والكهان والشعراء والنسابة والعرافة والمنجمون وغيرهم. في حين يأتي العامة واللحُق الذين يلتحقون بالقبيلة من خارج نسيجها. وأخيرا يقبع الموالي والعبيد في قاع الهرم. ويحتاج رئيس القبيلة؛ بطبيعة الحال؛ الى من يؤازره ويلمع صورته ويشيد بشرف نسبه بين القبائل. وهنا يأتي دور الشعراء والكهان والمنجمين ليقوموا بهذه المهمة الإعلامية الخطيرة.
والنظام القبلي الجاهلي؛ إذا؛ قائم على التفرد والإستبداد والكبرياء والتمايز ألإجتماعي اوالطبقي الصارخ الذي يزدري فيه ألأعلى من هو أدنى؛ او تزدري قبيلة قبيلة أخرى او قومية قومية أخرى او دين دينا آخر.... وهكذا دواليك.
وبقدر ما كانت هنالك مثالب في ذلك النظام القبلي فان فيه أيضا من خصال الفروسية الشئ الكثير؛ كالنخوة والشجاعة ونبذ الغدر والشهامة وإكرام الضيف وحماية اللاجئ والطريد. ومن الجدير بالتنويه أن معظم تلك الخصال الحميدة قد تلاشت من حياتنا ولم يبق منها اليوم إلا آثار باهتة، بينما حلت محلها صفات وعادات كريهة وغريبة عن عقيدتنا وتقاليدنا وعاداتنا. كما ترسخت وتكاثرت في مجتمعاتنا وفي أنظمتنا السياسية المعاصرة الصفات القبيحة المشار اليها والتي طبعت العديد من أنظمة الحكم العربية بالطابع الإستبدادي الجاهلي المتخلف؛ ثم زادت عليه القهر والتخلف والجبن والغدر والخيانة لمواطنيها ولمصالحهم.
وينبئنا الواقع العربي المرير بأن أي باحث لو شاء أن يتخذ من أحد تلك النظم القبلية من العصرالجاهلي إنموذجا قياسيا او (باترونا) لمقارنة اومحاكاة أي نظام عربي قائم الآن؛ من حيث أوجه التخلف الشامل؛ لوجد البعض منها يتجاوز كثيرا ما في ذلك (الباترون) المتهرئ. وقد نجد نظاما عربيا منغلقا بعينه وقد تجاوز الرقم القياسي في التخلف الشامل وكأنه ما يزال يعيش في العصر الجاهلي.
ولتقريب الصورتين الى القارئ الكريم؛ صورة نظام الجاهلية الأولىَ وصور بعض النظم العربية المعاصرة؛ تلك التي تحمل صفة (الإسلامية) اوتلك التي تحمل صفة (القومية) او صفة (اللبرالية)؛ لنرى كيف تقوم النخب الطفيلية الموالية في دعمها وتبييض وجهها الكالح والإستقتال من أجلها إذا ما تطلب ألأمر. اما جماهير الشعب فلا يكاد يلمس لهم دور إيجابي. فقد لفهم الجو العام السائد فصاروا أشبع بريشة في مهب الريح تلعب بأهوائهم وبمصالحهم قيادات ألأحزاب المتباينة والقوى الأجنبية.
ففي النظام الذي وصفوه بالإسلامي يمارس رجل الدين دور الكاهن في الجاهلية في تفصيل النصوص الدينية على مقاس الحاكم وبطانته لإسباغ الشرعية على كثير من ألأحكام التي تتعارض مع الشريعة. من ذلك مثلا السكوت المطبق عن ضياع فلسطين والقدس؛ وهي اولى القبلتين وثالث الحرمين؛ وإسقاط فرض الجهاد وبكل صوره؛ وحتى السلمية منها بضمنها التظاهرات والمسيرات والإحتجاجات. وتقديم المنافع المالية الهائلة الى أعداء العرب والمسلمين ومنعها عن ألأقطار العربية والإسلامية ألأكثر حاجة اليها لإغراض البناء والتنمية وكبح طاعون البطالة الذي سيقضي على العديد من النظم. والتحريض اوالمساعدة على إحتلال اوطان العرب والمسلمين مثلما حصل للعراق وأفغانستان. وإعطاء الإذن الشرعي لبناء القواعد العسكرية التي انتفت الحاجة اليها سوى العدوان على اراضي العرب والمسلمين. وغض الطرف عن الحكام الذين يأخذون الربا والعمولات المحرمة او الإتجار بالمال الحرام الناتج عن إنشاء المحطات الفضائية الماجنة. ومباركة شراء السلاح بأكثر من الحاجة اليه أضعافا مضاعفة؛ علما بأنه لم يستخدم ابدا في الدفاع عن ارض العروبة والإسلام. وكذلك بناء مشاريع الترف والعمارات المبهرجة على حساب المشاريع ألإستراتيجية المنتجة التي يتوقف عليها مصير ألأمة؛ وهو أصل التبذير الذي نهى عنه الإسلام بإعتباره عملا من أعمال الشيطان. هذا فضلا عن مخالفات إصول الشرع وفروعه في مسخ أوجه الحياة اليومية للمواطنين حتى تحول الناس الى مومياآت خاوية.
ولم يكتفوا بذلك بل عمدوا الى تقويض ركن أساس من أركان العقيدة وهو محو آثار النبي محمد (ص) من على وجه الأرض ومن الذاكرة ومن التأريخ خلافا للشرع ولجميع الحقائق العلمية الثابتة التي تؤكد على الدور الحاسم للآثار وللشواخص التأريخية باعتبارها من وسائل الإيضاح والبيان الحاسمة لترسيخ العقيدة؛ وذلك من خلال سرعة ربطها بالعقل وبالذاكرة ومن ثم بتأريخ الأمة عن طريق حاسة البصر؛ ومن أجل تجسيد العلاقة الربانية بين الله وبين نبيه الكريم. ولقد تنتبهت جميع الديانات والعقائد الى تلك الحقيقة العلمية الواضحة التي لا تقبل جدالا.
كما عمد رجال الدين المتزمتون الى محاربة العلم ومنجزاته بحجة كونها من البدع والضلالات؛ فحولوا المجتمع المنتج الى ما يشبه ألأحياء من فصيلة الضب وهي تزحف على بطونها في صحراء قاحلة خاوية. لكنهم أدركوا؛ وبعد خراب البصرة؛ أنهم كانوا على خطأ فتراجعوا عن فتاواهم المغلوطة دون ان ينالهم تأنيب من ضمير اوعقاب من مجتمع اوخشية من حساب الآخرة.
ومن المستغرب ان يؤازر تلك الأفكار الدينية المتخلفة او يسكت عليها كثير من العلماء المسايرين ومن ذوي ألإختصاص؛ فسمحوا لمن لا يفقه في العلوم المضبوطة من إحتكار القرارات والفتاوى ذات الطابع العلمي والتي تخرج عن نطاق مداركهم من غير مناقشة او إعتراض.
ومما يجدر تأكيده بهذا الشأن ان رجال الدين كانوا ومنذ عشرات القرون العائق الرئيس أمام تقدم المجتمع حيث عاش المفكرون الأحرار والعلماء المتنورون في أجواء الرعب والملاحقة بتهمة الكفر والزندقة؛ وتحت مطارق قوانين الحسبة التي ماتزال تلاحق المفكرين والعلماء في عدد من الأقطار العربية.
اما في ما يسمى اليوم بالنظم (القومية) وأشباهها اللبرالية؛ فالدور الذي تمارسه النخب الطفيلية؛ مدنية وعسكرية ودينية؛ في دعم سياستها كان وما يزال دورا خطيرا وحاسما. فصورة تلك النظم تتخطى بتطرفها وعنفها وقسوتها صورة النظام القبلي الجاهلي ولكن بأساليب عصرية.
ومن بين آخر تلك ألنظم القومية (التقدمية) (!) القائمة ألآن نظام كان قد إستولى على السلطة بإنقلاب عسكري دموي إنتزعه من نظام إنقلابي عسكري آخر. وهذا قد جاء على اثر نظام مماثل. وهكذا دواليك. وقد رسخ النظام القومي المشار اليه نظام التوريث في الحكم؛ والذي نهى عنه الإسلام. ولرئيسه؛ وتبعا لقوة شخصه؛ صلاحيات إستثنائية تسمح له بالتحكم بالثروة وبالجاه والنفوذ؛ والإنفراد بإتخاذ القرارات المصيرية. وطالما أن النظام يحسب على الأنظمة الشمولية فهو يزدري المعتقدات التي تخالف عقيدته السياسية او تعاديها او حتى تلك التي تماثله تماما. ومن خصائصه البارزة ايضا كبت الحريات وقهر الشعب وإيقاع العقوبات الوحشية بخصوم الرأي الآخر الذين إعتاد على وصمهم بالخيانة اوبالتجسس اوبالتآمر ليقوم بعد ذلك بتعذيبهم وسجنهم. او ان تتم تصفيتهم ببشاعة ودون محاكمات عادلة.
بل وقد رأينا أحد تلك النظم الشريرة وهو يقوم بقطع السنة الناس اوآذانهم او بتر أعضائهم الحساسة او رميهم من اعالي البنايات؛ لكونهم تفوهوا بكلام لم يعجب الرئيس. بل وذهب هذا الرئيس بعيدا فقام بتصفية رفاق العقيدة والنضال في مشهد تمثيلي مرعب وبلا محاكمة أصولية؛ وعلى مرأى ومسمع من النخب المتعلمة التي ما شعرت قط بتأنيب ضمير او نداء دين وهي تشاهد ذلك المنظر البشع؛ او أن يخالجهم أدنى شك او إحتمال بأن الدور قد يأتي عليهم يوما ما. لكن هذا الفصيل من البشر قد فقد حاسة التنبؤ بحدوث شر مستطير له او لإسرته؛ وهي حاسة فطرية أودعها الخالق في أحقر مخلوقاته حفاظا على النوع.
وكل ما تقدم من سلوكيات متوحشة يجدها الباحث متجذرة في أعماق النظام القبلي الجاهلي الذي ما جاء ألإسلام إلا للقضاء عليه وتصفيته. فهو يقوم في الأصل على إزدراء ألإنسان الذي كرمه الخالق من خلال رسالاته السماوية فجعله في أحسن تقويم. وقد نقلت تلك السلوكيات الخبيثة من جيل الى جيل شرايين الثقافة والعادات والتقاليد المتحجرة؛ ومن خلال قراءة التأريخ وفهمه على نحو مقلوب.
ويلاحظ الدارس بأن معظم تلك النظم كانت قد استولت على الحكم بإنقلاب عسكري دموي ومنذ بدايات القرن الماضي. وهو ألأسلوب الذي نصت عليه عقيدة أحزابها وممارسات أعضائها. وعلى الرغم من فشلها المتواصل وخيباتها المتلاحقة؛ وخصوصا في التفريط بألأوطان وبالمواطنين؛ فهي ما تزال تدور داخل حلقة شريرة وبعيون معصوبة وعقول راكدة وبعناد سافر.
ولا يتسع المجال لشرح عقيدة تلك الإحزاب التي لم تتجاور الشعارات العاطفية الفضفاضة التي خلت من المحتوى الفكري والفلسفي الإنساني بالرغم من الكم الكبير من ألأدبيات المنشورة. كما خلت أيضا من اية استراتيجية علمية وعملية لإدارة دولة عصرية لها فلسفة إقتصادية واضحة المعالم وتحت خيمة نظام سياسي واجتماعي يحترم ألإنسان كقيمة عليا مقدسة. فجميع ما جاء في تلك الأدبيات كلام وشعارات فارغة لم يصدقها أحد سوى المخدوعين؛ لكونها لم تثمر سوى ضياع الأوطان وتدمير ألإنسان العربي ومسخه الى مخلوق يشعر دوما بالرعب ومهزوز الشخصية من شدة البطش والقهر؛ حتى كره الحياة وفقد إلإرادة الحرة على التفكير والعمل والإبداع. ولعل ما نشاهده في هذه الأيام السود من قيام الشباب اليائس بالإنتحار بحرق أنفسهم أمام الناس ما يمثل ذروة الرفض والمقت والإحتقار. يضاف الى ذلك ما نلمسه اليوم من عزوف معظم فئات المجتمع عن المشاركة الفعلية في أي نشاط وطني او مدني متواضع اوالقيام بأي عمل تطوعي عام يتصل بمصيرهذه ألأمة التي تتعرض الى التفتيت والإفناء من قبل القوى الإستعمارية الكبرى وبمساعدة عرب ومسلمين.
أما بخصوص الدور الإعلامي والتثقيفي لتلك النخب فبإمكاننا القول بأنه دور هزيل وسلبي. فمن يستعرض ما يكتب في الصحف والمواقع العربية من قبل الكثير من الكتاب الكبار اوالصحفيين المحترفين اوألأكاديميين الموالين فسوف يرى العجب من سطحية وضحالة ما ينشر فيها؛ وبعده عن المساس المباشر بقضايانا المصيرية وافتقاره الى الحلول الحاسمة، في الوقت الذي يشاهدون فيه الوطن وهو يتفتت ويتناثر في الهواء كالهباء. وقد أخص بالذكر فئة المفكرين والسياسيين ممن سبق لهم وان شاركوا في السلطة؛ لكنهم ولوا ألأدبار وفروا من الميدان مؤثرين النجاة بأنفسهم.
لكن ألأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن يقوم مفكرون وسياسيون من الموالين لتلك النظم الجاهلية بإصدارالبيانات السياسية الخاوية وإسماعنا نفس الموالات العتيقة وبنفس اللحن النشاز البائس وكأن هذه ألأمة العريقة قد فقدت ذاكرتها تماما وأصابها العقم؛ فلم تعد تنجب قادة وسياسيين سواهم.
ومن الحقائق المرة التي لابد من ذكرها هي ان الشعب العربي قد مل وقرف من ألإنقلابات الدموية التي لم يجن منها سوى الدمار والخراب. فهي التي اوهنت العزائم ودمرت الأرادات فمهدت للإحتلال وجاءت بذوي العقول المتحجرة وباللصوص والفاسدين والجهلة لحكم البلاد.
ما العمل إذن؟
ليست الإجابة عن هذا التساؤل هينة على ما يبدو. فهي غاية في الصعوبة والتعقيد، وإن بدت سهلة وميسرة أحيانا. وسبب التعقيد يعود الى عمق الجذور التأريخيةالتي تغذي ثقافة الجاهلية التي ورثها الإنسان العربي؛ حاكما ومحكوما؛ عن أجداده عبر القرون. فهي شبيهة بكتلة معدنية صلدة غير قابلة للمطل او التشكيل ما لم تجر معاملتها بهدوء وعلى وفق منهجية علمية واضحة وبطرق خاصة. وقد يكون التعامل مع الإنسان أكثر تعقيدا وخطورة بطبيعة الحال.
فلقد رأينا عبر التأريخ كيف تصرفت الجماهير الغاضبة الثائرة التي أخذت بنفسها زمام ألأمور حتى انتهى ألأمر بها؛ وفي معظم الحالات؛ الى الفوضى العارمة وسفك الدماء والتدمير الشامل للبلد؛ حيث تولت قيادة عمليات التخريب قوى اجنبية معادية ومدربة تدريبا عاليا؛ كانت تنتظر الفرصة السانحة بفارغ الصبر؛ وذلك بالتوازي مع بعض القيادات المحلية النفعية اوالمشبوهة. فكان لابد من السيطرة على الأمور منذ اللحظات الأولى من قبل حكماء القوم وعقلائهم؛ ورسم الطريق بدقة وتعيين ألأهداف الواقعية بوضوح شديد. فالمثل يقول: إنما ألأعمال بخواتيمها.
لقد أجابني مرة أحد المثقفين من أصل هندي أحمر حين سألته عن الأسباب التي جعلت قومه يخسرون جميع الثوراث والحروب التي خاضوها مع المستعمرين القدماء؛ فأجاب قائلا: ( لقد حاربنا بضراوة من أجل كبريائنا المتوارثة فقط. ثم جرى سحقنا فخسرنا وطننا وتأريخنا وكبرياءنا. لكننا؛ وبعد مئات السنين؛ حصلنا على معونات إجنماعية وسكائر مجانية من الحكومة !).
والخلاصة؛ فأن اول خطوة نحو الحل الجذري لمشكلة ألإنظمة العربية وقبل ان تتفجر ألأمور؛ تبدأ بتحديد تصور واضح عما ينغبي عمله. وآية ذلك أن نبدأ أولا بتهشيم تلك الشرنقة التي ما يزال يقبع داخلها هؤلاء القادة العرب وبطانتهم من النخب الذين ما يزالون؛ وحتى بعد أحداث تونس؛ يروجون لثقافة الجاهلية؛ وتعريضهم الى اشعة الشمس لتجفيف منابع تلك الثقافة. ومن ثم العمل على خلق نظام سياسي تقدمي يشاد على محورين رئيسين: ألأول أن يؤسس على العقيدة والأيمان والتراث النقي للأمة. والثاني أن يبنى على خبرات وتجارب الأمم الناهضة؛ شريطة ان لا تتعارض مع معتقداتنا الأصيلة. ولست أشك في قيام الشعب بالترحيب بالنظام الجديد واحتضانه والسعي لإنجاحه بشرط ان يتولى هذه ألمسألة الخطيرة شخصيات وطنية معروفة لن تخطئها عين ولن تتجاوزها ذاكرة. وينشأ هيكل النظام الجديد على رمزية الرياسة واستقلالية السلطات الثلاث؛ كما هو معروف في جميع الدساتير والنظم الديمقراطية الحديثة.
لكن الإحجام والرفض قد يأتي من الحكام والنخب الجاهلية أنفسها؛ كما علمتنا التجارب السابقة. ولعل في تجربة تونس لخير إنموذج. فأمثال هؤلاء الحكام لن يتخلوا عن عروشهم مهما كلفهم ذلك ولو على جثثهم.
لذلك نرى أن تنطلق البداية من داخل النظام الجاهلي نفسه. إذ ينبغي علينا ان نعطي هؤلاء الحكام الدرس الأخير وأن يجتازوا امتحانه بنجاح؛ وقبل فوات ألأوان. فإن رفضوا نداء التأريخ فما على القوى الفاعلة المؤثرة والنابعة من قلب الشعب وضميره إلا ان تطالبهم بأن يشدوا الرحال ويتنحوا عن السلطة؛ سلما وطواعية؛ ومع بطانتهم التي يتصدرها أصحاب العمائم المتلونة؛ قبل أن يجدوا أنفسهم يحومون في الفضاء بحثا عن أعشاش تأويهم. وسوف يخلدهم التأريخ على هذا الصنيع الإنساني الكبير بالتأكيد.
وللحكاية فصل أخير يتعلق بالدور الخطير الذي ينبغي على الوطنيين الشرفاء عمله سواء تم التغيير او تأجل؛ وأعني بهم النخبة المثقفة الملتزمة من المؤرخين والكتاب والشعراء والفنانين التشكيليين والمسرحيين وغيرهم؛ وذلك بكشف جرائم ومفاسد وخیانات رموز ورثة العصر الجاهلي الأول من الحكام الطغاة المستبدين والخونة وأعوان المحتل وممن أشاع الفرقة وغذى الفتن الطائفية والمذهبية وذلك من خلال تدوين سيرهم الذاتية على المواقع ونشر الشعر واللوحات والجداريات والتماثيل والنصب والتذكارات والتمثيليات على اوسع نطاق؛ ومن خلال إقامة المعارض والمتاحف النوعية حيثما هم في ارجاء العالم؛ ولكي يكون ذلك درسا وعبرة لمن اعتبر.
وقبل ان أختتم كلمتي هذه، ينبغي أن نستحضر ونستذكر مقولات خالدة في الديمقرطية ألأصيلة الحقة للخليفة الفاروق عمر بن الخطاب؛ وحكما إنسانية بليغة للخليفة إلإمام علي بن أبي طالب؛ وأن ننقشها على رخامة التأريخ الناصعة البياض. يقول الخليفة عمر: ( لا خير فيكم إن لم تقولوها؛ ولا خير فيَّ إن لم أسمعْها) و( متى استعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتـُهم أحرارا) و( أشقى الولاةِ من شقيتْ به رعيتـُه). ويقول ألإمام علي: ( إذا ملك ألأراذل هلك الأفاضل ) و( دولة ألأوغاد مبنية على الجور والفساد) و (إن من الفساد إضاعة المال).
أكاديمي عراقي مغترب
[email protected]
التعليقات