برحيل الكاتب أنيس منصور نكون قد فقدنا أحد كبار المثقفين الموسوعين في الوطن العربي.. كان الراحل متخصصا في الفلسفة ويجيد سبع لغات أجنبية، والمفارقة ان ثقافته الواسعة أصبحت عائقا أمام تفرغه وإبداعه.
يجسد أنيس منصور مشكلة تشتت المثقف الموسوعي الذي توزعت إهتمامته وتشتت تركيزه، وإنشغل في الأدب والترجمة والصحافة، ومن المؤسف رغم ضخامة تجربته الحياتية وثقافته.. إلا انه لم يقدم شيئا متميزا على صعيد الكتابة سواء في مجال إختصاصه الفلسفة أو المجالات الأخرى التي كتب فيها، صحيح كان كاتبا جيدا في المقالة الصحفية، لكن هل قدم جديدا للثقافة ؟ برأيي الشخصي لم يقدم إضافة تذكر في الفلسفة والأدب، بسبب عدم تركيزه على حقل محدد من حقول الثقافة.
وهذه نفس مشكلة عبد الرحمن بدوي الذي كان أيضا أحد كبار المثقفين الموسوعيين وتخصص في الفلسفة وكان يجيد أحد عشر لغة أجنبية وأصدر عشرات الكتب، لكنه هو الآخر تشتت مابين الترجمة وتقديم شروحات للفلسفة ولم يضف شيئا جديدا في مجال إختصاصه، علما ان ثقافته كانت تفوق حتى ثقافة افلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة الذين أنتجوا فكرا جديدا في عصر لم تكن الجامعات والمعرفة منتشرة مثل الآن في هذا العصر الذي نعيش فيه.
النموذج المعاكس لهما هو الروائي نجيب محفوظ الذي كان من نفس جيل أنيس منصور وعبد الرحمن بدوي، وايضا تخصص في الفلسفة، لكنه إختلف عنهما في طريقة تنظيم حياته بشكل دقيق وصارم، واختار هدفا محددا وسار عليه وهو حقل الأدب.
لقد كان نجيب محفوظ عبقريا وشجاعا في طريقة حياته أيضا، ففي عقد الثلاثينات في الوقت الذي كانت الشهادة الإبتدائية تعتبر مكسبا علميا وإجتماعيا، هو رفض بقرار شجاع الإستمرار في الدراسات العليا في الفلسفة، وقرر الإكتفاء بالبكالوريوس الجامعية والتفرغ منذ تلك اللحظة للأدب.
لقد كان مؤمنا بنفسه وقدره رغم إنه كان شابا ولم ينتج شيئا على صعيد كتابة الرواية، لكنه كان أشبه بمن يٌقاد بحبل القدر السري نحو مصيره الموعود صوب الإبداع والشهرة، وتحقق كل هذا بفضل التعامل الصارم مع الوقت والصبر، وتحديد الهدف ومواصلة السير نحوه.
رحم الله أنيس منصور.. لقد سعى أن يجعل حياة الناس أجمل وأكثر وعيا من خلال كتاباته، وكان من القلائل الذين عاشوا حياة طويلة سعيدة بعيدا عن الشعارات الثورية والتعرض للإعتقال والسجون.. كان حكيما وتنجنب الإنزلاق مع الأحزاب والمعارضة، وأخلص للحياة ومتعها ومسراتها، وهي أعطته ما أراد في هذا الجانب.
التعليقات