من الأقوال غير الشائعة كثيرا: (الشعب دائما على حق وإن أخطأ، والفرد دائما على خطأ وإن أصاب). هذا على وفق منطق الإحصاء الرياضي المعروف.
فحين اندلعت ثورة الياسمين في تونس والتي قدح شرارتها جسد الشهيد (البو عزيزي ) المشتعل في ميادين تونس الخضراء، تنبهت وانتفضت الجماهير العربية في كل مكان؛ وكذلك رؤساء قبائلهم ووعاظهم المنافقون مرة واحدة؛ كلا على طريقته الخاصة. فمسكوا أنفاسهم وهم يحدقون في ( قرص الروليت) اين سيرسوا !؟. وهل ستنتصر تلك الثورة اليافعة الجميلة؛ او انها ستخفق كما اخفقت معمظم إنتفاضاتهم في الماضي. تلك الثورة التي قامت على أكتاف جماهير الشعب؛ وبمفردهم؛ بعيدا عن نفاق ألأحزاب الهرمة والنقابات المنقبة والقبائل المستنسخة.
وجاءت النتيجة بأسرع من لمح البصر. فخرج حاكم تونس (ابن علي) الى الشعب وأعترف بأنه قد وعى الدرس و(فهمه!) جيدا، ولكن بعد ثلاثة وعشرين سنة من الإستبداد والفساد. وهي مدة زمنية تكفي لتخريج ستة دفعات في اية جامعة محترمة.
ولم يكن خروج (ابن علي) الى الناس وهو يطلب الصفح والمغفرة من غير (عشم). فقد توكأ على الحكمة العربية القائلة: (عفا الله عما سلف) والتي لم تكن حكيمة في مجمل الحالات. فقد كان آخر قرابينها (عبد الكريم قاسم) في التأريخ الحديث.
وفي الساعات ألأولى لثورة التوانسة المظفرة صرح بعض الحكام العرب وعلى رأسهم حاكم مصر وبطانته المتهرئة؛ وقد عصف بهم الهلع؛ بأنهم لا يرون اي خطر على أنظمتهم من العدوى؛ ذلك ان لتونس ظروفها الخاصة؛ وان صاحبهم (أبن علي) لم يؤتَ الحكمة كما أتتهم.
ولم تمض إلا ايام قليلة حتى باغت الشعب المصري ألأصيل العالم اجمع بثورة أبهى جمالا وأشد تألقا. وهنا انتفض العالم بأسره وأستنفر أيما إستنفار. فاجتمعت القيادات السياسية والعسكرية والإعلامية للدول الأوربية. وأعدت غرفة مشتركة للعمليات الطارئة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وسواهما. وأطلقت خطوط الهاتف الساخنة وتوزعت ألأدوار بدقة نادرة بين الرئيس (أوباما) ووزيرة خارجيته (كلنتن) والمتحدث بإسم البيت الأبيض لإطلاق التصريحات المتعاقبة التي اتسمت بالتمويه والمراوغة والخداع. فهي مع تطلعات الشعب المصري وأمانيه في حياة أفضل؛ لكنها صمتت عن مستقبل (الريس) ونظام حكمه. وهل سيبقى حتى نهاية ولايته في أيلول القادم..!؟. كما طالبت الجميع بالتروي والحكمة والعمل على نقل السلطة بهدوء.
لكن ما يسمعه العالم من وسائل الإعلام وأبواق المسؤولين هو غير ما يجري داخل غرفة العمليات الطارئة التي تستعين بعقول (أكاديمية) عربية قد عرفت بالدهاء والمكر وبكراهية العرب؛ للإنقضاض على الثورة بغتة بعد ان يصيبها الكلل. وقد تعبث بها ألأهواء وربما الخلافات بمرور الوقت. والدليل على ذلك وجود رئيس ألأركان المصري في واشنطن قبيل إندلاع الشرارة حيث قطع زيارته بغتة. وكذلك أللقاآت السرية التي كانت تعقد في السر؛ ومنذ أشهرطويلة؛ بين مسؤولين في الإدارة الأميركية وبين عدد من القيادات العسكرية المصرية؛ من بينها شخصيات معروفة تم ترشيحها فعلا من قبل الرئيس (مبارك) لقيادة البلد من بعده. وكذلك شخصيات علمية مكرمة ومشهورة على النطاق الدولي والتي باتت تلعب؛ ومنذ أشهر عديدة؛ دورا محوريا بارعا بين الثوار.
ان الصراع بين نظام الحكم المصري المترنح ومن يسانده من الداخل والخارج وبين الشباب المصري الثائر هو في واقعه صراع إرادات حاسم لابد وأن ينتهي بسقوط أحدهما ارضا وهو مضرج بالدماء. وهنا لا وجود لحلول وسط قط. فالثوار يريدون رأس النظام أولا ومن ثم الجسد كله؛ أي تغيير بنية النظام وأسسه وأعمدته، وإقامة نظام ديمقراطي يتمتع بالسيادة المطلقة. وهذا هو بالذات ما يجعل الإدارة الأميركية وحكومة إسرائيل وحكومات الغرب وجميع الحكومات العربية بلا إستثناء؛ تصاب بالهلع. فالنظام المصري يمثل بالنسبة لهؤلاء بداية النهاية لإحلامهم ومشاريعهم إن سقط. لذلك سوف لن يتركوا الجواد الجامح من غير فارس مدرب تدريبا عاليا ليلجمه ويمتطيه.
ان من يتابع تطور ألأحداث الخطيرة المتلاحقة في (ميدان التحرير) يرى بكل وضوح ان صراع الإرادات الدامي ذاك صراع غير متكافئ تماما. فالسلاح الوحيد الذي يحمله الثوار هو سلاح ألإرادة الوطنية الطيبة الصامدة فحسب. وقد برهن تأريخ الثورات والإنتفاضات بأن ذلك السلاح لن يكفي لوحده قط لتحقيق الأهداف الكبرى. بينما يتسلح الطرف ألأخر بجميع القدرات المادية والمعنوية؛ محلية ودولية؛ فضلا عن الإرادة القوية المعاكسة التي توسلت بأخس الوسائل لتشويه الثورة وذلك بإطلاق المجرمين ورجال المباحث وقوى الأمن الداخلي وأيتام الحزب الحاكم وأجهزة إعلامه والنخب السياسية المرتزقة لتدمير البلد وإلصاق كل ذلك بالثوار.
ولابد وان يلاحظ المراقب وجود ثغرات خطيرة في جدران قلعة الثوار يحاول الحكم إستثمارها الى ابعد الحدود؛ وقد نجح في بعضها؛ يمكن تلخيصها في نقاط منها: (1) عدم وجود برنامج سياسي واضح للفترة التي تعقب مباشرة سقوط الحكم بإستثناء مطلب واحد وهو رأس النظام. (2) عدم إنتخاب لجنة او مجلس دستوري او وزارة إنتقالية او أية هيئة أخرى من ابرز الشخصيات الوطنية الملتزمة والمعروفة لإدارة المعركة على جميع الجبهات. (3) التأكيد المستمر من قبل الثوار ومن قبل أعدائهم على حد سواء على ان الثورة هي ثورة الشباب لوحدهم؛ حتى نأت معظم هيئات المجتمع المدني وألأحزاب الوطنية والنقابات التأريخية والشخصيات الوطنية المعروفة عن مساندتهم علنا وخصوصا ضرورة ظهورهم في (ميدان التحرير) وهم يشاركون جنبا الى مع الثوار. (4) الوهم الذي سيطر على الجميع بأن ثورة مصر هي كثورة تونس او إمتداد لها. وقد فات الجميع بأن تونس غير مصر وأن (أبن علي) غير (مبارك) والتزامات تونس غير إلتزامات مصر الكونية.....!؟. (5) الجمود الظاهر في حركة الثورة والثوار من حيث تطوير الفعاليات الإستراتيجية كالتحرك السلمي بإتجاه مراكز القيادات العليا، في مقابل ألإجراءات الخطيرة المدروسة بعناية فائقة؛ والتي يقوم بها النظام الخبيث والمحنك لشل حركة الثوار وبث الرعب وإشاعة روح الهزيمة بينهم وبالتالي سحب البساط من تحت أقدامهم وذلك بتوريطهم في جريمة كبرى مفتعلة ليتمكن الجيش من التنصل من التزاماته العلنية والإنقضاض على الثورة. وهذا السناريو هو الذي يعمل النظام عليه ألآن؛ كما يبدو.
والخلاصة، فإن على الشباب المصري الثائر ان يعيد النظر في استراتيجيته واستكمالها فورا ليتمكن من تحقيق النصر.
أكاديمي مغترب من العراق
التعليقات