فجأة اكتشفت القيادات العربية أن قواعد اللعبة في بلدانها قد تغيرت، وأن الوسائل القديمة للحفاظ على الأنظمة ومكاسبها لم تعد تجدي بل قد تكون من أسباب التعجيل بسقوط تلك الأنظمة.
تأخر الاكتشاف كثيرا في تونس ومصر وربما غيرها، وقد يكون هناك متسع من الوقت لبعض الأنظمة لتصحيح أوضاعها مع شعوبها للانتقال إلى مرحلة جديدة من العلاقة بين الشعوب العربية والأنظمة الحاكمة.
فما كان ممكنا في السابق لم يعد كذلك بعد حريق البوعزيزي وزلزال ميدان التحرير. لكن لماذا؟ وما هي أهم المتغيرات التي طرأت على العالم العربي لتجعل نظامين من أقوى الأنظمة العربية تسقط في أقل من شهر بأقل جهد وتكلفة؟
إن أسباب نقمة الشعوب العربية على أنظمتها كثيرة وليست بجديدة. فمن احتكار للسلطة، وفساد إداري ومالي، وبطالة تنمو كل يوم، وتدني مستوى المعيشة بل وتدني كرامة الإنسان العربي في وطنه، وانحسار للطبقة الوسطى في المتجمعات العربية وتعاظم الطبقة الفقيرة، والظلم في التعامل مع الناس وخصوصا المثقفين والمعارضين، و فوق كل هذا كذب وتدليس تمارسه تلك الأنظمة مع شعوبها من خلال الإعلام الرسمي والخاص المسيطر عليه، كل ذلك وغيره كثير كانت تعرفه الشعوب والأنظمة العربية، لكن الجديد الذي لم تلاحظه أو لم تهتم به الأنظمة العربية حدث داخل الشعوب العربية أولا، ثم في العالم الخارجي ثانيا، والذي يبدو أن الأنظمة العربية لم تعطي تلك المتغيرات أهمية كبيرة أو أنها بلغت من الثقة بأنظمتها الأمنية مبلغا جعلها تقلل من خطورة تلك المتغيرات الداخلية والخارجية.
ويأتي الشباب في مقدمة تلك المتغيرات الداخلية لأنهم يمثلون الشريحة الأكبر في جميع المجتمعات العربية، وهم الأكثر معاناة من بقاء تلك الأنظمة على ما هي عليه، فالبطالة في أوساطهم بلغت 54% في بعض التقديرات، بل إن البطالة في أواسط المتعلمين أعلى منها بين الأقل تعليما.
وأولئك الشباب لا يعرفون سطوة الأنظمة وجبروتها لذلك فهم لا يخشونها كآبائهم، فقد عاشوا في فترة ترهل تلك الأنظمة بعد أن أمنت على نفسها وركنت إلى أن الشعوب أصبحت عاجزة عن عمل أي شئ لأنهم منهكون في الركض خلف لقمة العيش، ولأن هذه اللقمة أصبحت عزيزة جدا على الشباب فقد تساوى لديهم الموت والحياة من أجلها كما فعل محمد البوعزيزي.
ثم إن الشباب لم يعد يستقي ولاءه وأخباره وفهمه للأحداث الداخلية والخارجية من خلال المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية لتلك الأنظمة التعليمية منها والإعلامية، فقد تجاوز الشباب تلك المؤسسات من خلال القنوات الفضائية في منتصف التسعينيات الميلادية ثم الإنترنت بعد العام 1998 م، ومثَّل اليوتيوب ثورة كبيرة جدا في نقل الأحداث الداخلية للعالم بعيدا عن سيطرة وسائل الرقابة الحكومية، وقد استطاع الشباب من خلال هذه الوسيلة نقل الكثير من الأحداث للعالم بشكل يكاد يكون مباشرا كما حدث لفيضانات جدة العام الماضي وهذا العام، وأحداث تونس والعراق قبل ذلك وجميع الدول العربية. أما مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك والتويتر فجاءت لتكمل الحلقة القاتلة، فبواسطتها أستطاع الشباب تنظيم أنفسهم وتكوين مجموعات تحمل أفكار تغييريه بشكل سريع ومنظم بعيدا نوعا ما عن قمع أجهزة الأمن الداخلي للحكومات العربية.
التغير الأخر والخطير في الداخل الذي جعل معظم الأنظمة العربية في خطر اللحاق بتونس ومصر هو تلاشي ثقة الشعوب بأنظمتها على كل المستويات حتى أولئك الذين يحسبون على الأنظمة بطريقة أو بأخرى لم يعودوا يثقوا بالقيادات العليا، فالفساد الذي يضرب أطنابه في كل أجهزة الحكومات العربية كرَّس اليأس من صلاح أوضاع الأنظمة خصوصا وهم يرون تطورا مذهلا في كل العالم في حين أوطانهم تتراجع كثيرا مقارنة بدول كانوا يرون أنها أقل منهم بكثير مثل كوريا الجنوبية وماليزيا واندونيسيا وغيرها من دول العالم القريب والبعيد. وذلك اليأس كون أرضية خصبة لتفجير غضب الشعوب من أنظمتها، وقد تنبه لذلك الأمير سعود الفيصل وزير خارجية السعودية عندما تحدث في تصريحه الأخير عن أحداث مصر وفرق بين الحراك الداخلي والحراك الخارجي، لأنه كان يخشى كما يبدو من أن تستغل بعض الدول الخارجية الاحتقان في الشارع العربي وتأجج ثورة وغضب الشعوب على أنظمتها، وهو ما حدث فعلا في تونس ومصر.
أما التغيير الخارجي الذي سهل كثيرا من إحداث تغيير للأنظمة العربية أو تغيير لتعاطيها مع شعوبها فتمثل في أمرين مهمين: الأول أن فساد الأنظمة العربية وترهلها أصبح مكلفا سياسيا واقتصاديا للدول الغربية ولجميع دول العالم المتعامل معها، فلم يعد من المجدي للحكومات الغربية التعاطي مع أنظمة دكتاتورية همها الأول هو الحفاظ على قوة النظام وليس بناء الدولة وتطويرها ما كون جيوشا من الشباب العاطل الناقم على أنظمته الفاسدة وعلى الغرب الذي يدعم بقاء تلك الأنظمة، فتحول إلى أكبر خطر يهدد العالم فيما يسمى بالإرهاب.
الأمر الآخر والذي أعتقد أنه لا يقل أهمية عن الأول هو الموقف الأخلاقي للحكومات الغربية أمام شعوبها، فالشعوب الغربية أصبحت تتعاطى مع شعوب العالم مباشرة من خلال الانترنت وليس من خلال ما يروجه السياسيون هناك، وما تشاهده الشعوب الغربية من قمع وظلم للشعوب العربية من قبل أنظمتها يجعلها تنقم على حكوماتها التي تدعم تلك الأنظمة الدكتاتورية الظالمة، وهذا ما يكلف تلك الحكومات خسائر سياسية فادحة على المستوى الداخلي، وهو ما لا يرغب فيه أي سياسي في العالم.
لذلك حرصت الحكومات الغربية على دعم ثورتي تونس ومصر والإيحاء لبقية الشعوب العربية بأنها ستفعل الأمر نفسه معهم حال تحركهم لتغيير أنظمتهم أو تغيير تعاطيها معهم.
ومن المؤكد أن ما حدث في تونس ومصر غيَّر واقع الشعوب العربية في تعاطيها مع أنظمتها ولم تعد تهابها كما في السابق، وأن التغيير حاصل لا محالة في جميع الدول العربية، لكن كل بطريقته الخاصة ووقته المناسب.
السعودية ndash; جدة
التعليقات