هي بالتأكيد مشكلة عندما يصاب المتدين بالحول الفكري! في البدأ، لابد أن أعرف ماذا أقصد بالحول الفكري. الحول الفكري هو أن ترى أشياء هي أمامك ولاترى أشياء أخرى وهي أمامك أيضا ً. أي إنك ترى أشياء ولاتريد أن ترى أشياء أخرى هي أمامك عن قصد. إجتماعيا ً هو النفاق الأجتماعي، وسياسيا ً هو إزدواجية المعايير في التعامل، ودينيا ً هو أن ترى القشة في عيون الآخرين ولاترى الجذع في عينيك. من الواضح أن الكثير من السياسيين مصابون بهذا المرض وذلك لسبب بسيط وهو أنهم يتحركون حسب مصالح المجاميع التي يمثلونها أو الدول التي ينوبون عنها. وبما أن المصالح متغيرة فبالتأكيد سوف تتغير المواقف أيضا ً حيث يمكن التغطية على الأمر من خلال اللغة الدبلوماسية أو النسبية التي يحملها الخطاب السياسي وهذا طبيعي جدا ً. ففي مرة من المرات مر رئيس وزراء بريطانيا السابق تشرشل على قبر فقرء على شاهدة القبر...هنا يرقد السياسي النبيل فلان...ضحك تشرشل وقال: إما سياسي أو نبيل. إلى الآن لاتوجد مشكلة فهذا ديدن السياسيين منذ الخليقة، لكن المشكلة هي عندما يقحم المتدين والإسلامي بالخصوص نفسه بالسياسية فتبدو المشكلة من نوع آخر. ولا أقصد هنا المسلم العادي، بل اصحاب المؤسسات الدينية والذين يمثلون طوائف ومجموعات ويقودون أناس بالملايين.
لقد كشفت الأحداث الأخيرة، في تونس ومصر وليبيا، مواقف الكثير من المثقفين من كتاب وصحفيين وفنانين وشيوخ دين أيضا ً إن كانت مواقف صادقة أم تحمل في طياتها إزدواجية في التعامل مع الحدث. لابأس أن يصاب إنسان عادي بضبابية في الرؤيا، لكن أن يصاب الكثير من شيوخ الدين بالضبابية فينتج إزدواجية في التعامل مع الحدث كارثة كبيرة. فأحد الشيوخ يرى بوضوح، كما يرى ضوء الصبح، أن الذي يحرق نفسه يذهب إلى النار لأنه نوع من أنواع الإنتحار، ويتهم من يخرج مظلوما ً بالتظاهر بتفكيك الأمة. ولكن لم يرى شيخنا الكريم الظلم الذي تمارسه الدولة في حق الشعب عندما تسرق قوته، ولا الومه ففي قاموسه أن الخروج على الظالم حرام في التراث الفكري الديني.
أما الشيخ الآخر فله قصيدة عصماء بالرئيس العراقي السابق متجاوزا ً فيها مشاعر الملايين من الضحايا الذين خلفهم النظام. هنا أتوقف قليلا ً عند شيخ كبير مميز، حيث أفتى بقتل القذافي بالرغم أن القذافي عنده مسلم ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فخطاب القذافي شاهد على ذلك. ولكن عندما سمعت خطبة الشيخ العصماء في طريقة وصفه الرئيس العراقي السابق وكيف كان يبني الجوامع ويساهم فيها وتألمه الشديد بطريقة الإعدام توقفت كثيرا ً. ماهذا التناقض العجيب الغريب، ليس من فرد عادي بل من شيخ يمثل أمة باجمعها. ياريت أن يقتل القذافي ليس مرة واحدة بل مرات عديدة، ولكن أين ذهبت ضحايا النظام العراقي السابق من سنة وشيعة؟
ليس مايهمني هنا القذافي أو صدام حسين، بل الحول الفكري الذي يصيب علماء الدين لدينا. والأحرى منظومتنا الفكرية التي تنتج المتدينين والمثقفين. الثقافة العربية في ترابطها مع الدين الطائفي ينتج فكرا ً مشوها ً ينتج منه أن نقبل الدكتاتوريات ونترحم عليها. بل هذه الثقافة المشوهة هي التي تصنع الدكتاتوريات وتجعل أمتنا في الركب الأخير من الأمم. هذه الثقافة التي تقبل أن يموت الكثير في كبت وظلم، ويقتلون ويموتون بشتى الطرق، وينفون ويهجرون ومن ثم لانتفضل بالإدانة من موقع المسؤولية فتلك مشكلة حقيقية. عندما لاننتفض على مجنون يقصف شعبه بالطائرات فتلك مشكلة حقيقية أيضا ً.عندما لاتنسجم قيم السماء التي يدعي الكثيرون أنهم يحملونها مع آلام وآهات المظلومين فلاخير بتلك القيم. عندما لانحس، ولا لحظة واحدة، بأم فقدت أبنها الوحيد عندما يقتله الظالم ونقول أن الظالم مسلم ولابد أن نأسف لموته، فهذا يدل على أن لدينا مشكلة.
لابد أن أطرح سؤالا ً مهما ً على المؤسسة الدينية فضلا ً عن المتدينين والشيوخ الذين يمثلونها. ماهي وظيفة تلك المؤسسة وشيوخها في المجتمع؟ بالتأكيد هي وظيفة إجتماعية ذات أبعاد أخلاقية. وعندما نقول أخلاقية لابد أن تنطلق من ثقافة العقل النقدي والتي ترى الأشياء من خلال منظور معياري خلقي وليس معيارا ً وضعيا ً. أي أن على المؤسسة الدينية وشيوخها أن لاتلبس أي نوع من أنواع النظارات التي ترى بها أشياء ولاترى بها أشياء أخرى. بشكل آخر أن لا ترى الناس وتصنفهم على أساس الدين والمذهب، ويكونوا بشرا ً ويستحقون الحياة لأنهم من دين أو طائفة معينة، ولايكونوا بشرا ً ويستحقون الموت والظلم لأنهم من دين أو طائفة أخرى. إذن هي ثقافة الآخر المختلف الذي لاأشترك معه أو لابد أن لاأشترك معه بالمشاعر ولا أدين الظلم الذي يقع عليه. مشكلتنا ثقافية وليست دينية، حيث تتعلق بالتصنيف حسب الأولوية في العقيدة والمنهج والدم، فلايختلف هنا أي شيخ من شيوخ الدين عن السياسي الذي يراعي المصلحة السياسية.
التعليقات