لم يكن يوم 25 شباط/فبراير الماضي، كما يعتقد البعض، هو تاريخ انطلاق أولى التظاهرات العراقية المطالبة بحقوقها المشروعة، بل سبقتها تظاهرات عديدة وفي مناطق متنفرقة من العراق، ولعل تظاهرات شارع المتنبي التي قادتها الأصوات الثقافية العراقية، قد سجلت الانطلاق الحقيقي لفكرة التظاهر ورفض السكوت على مظاهر الفساد والوعود الكاذبة، لتنطلق بعد بذلك سلسلة تظاهرات، كان أكثرها صخباً تلك التظاهرة quot;العنيفةquot; التي انطلقت في محافظة واسط... التظاهرات ما زالت مستمرة، وأخذت تتطور، وصارت المطالب تأخذ بعداً سياسياً وإنسانياً أكثر عمقاً، وأبلغ تأثيراً، كون أن المواطن العراقي صار يدرك تماماً كل ما يدور حوله، ويعرف كيف يستخلص الزيف والكذب والمهادنة من بين خطابات وأقاويل أصحاب القرار. ولعل تسجيل ظاهرة التصاق المثقف بالمواطن البسيط التي شهدتها حالة الحراك الجماهيري، كان له التأثير البالغ في انتاج وعي جماهيري، جعل أصحاب القرار يستشعرون الخطر الحقيقي الذي يهدد بقاءهم في مراكزهم. ورغم أن هذا يعتبر مكسباً لا يستهان به، إلا أن هناك مكاسب أخرى لا تقل أهمية، حصدتها الأصوات العراقية التي انطلقت بتظاهراتها السلمية والتي شهدت رغم ذلك سقوط أكثر من 23 ضحية من أبناء العراق، بحسب ما أعلنه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، في الخامس من نيسان الحالي، خلال تقريره الثاني المقدم إلى مجلس الأمن.
هناك من يرى أن أهم ما حققته التظاهرات هو المكاشفات quot;غير العلنيةquot; التي شهدتها أروقة الساحة السياسية العراقية بين العديد من السياسيين والتي أكيلت من خلالها العديد من التهم المتبادلة، وقد سمعنا بعضها على الهواء مباشرة... صحيح أن هذه النزاعات والإتهامات قد تحد من ألاعيب أصحاب الضمائر المرهقة بمصالحها الشخصية، ولو مؤقتاً، إلا أنها جعلت المواطن العراقي يدرك مدى التخبط الواضح الذي ظهرت عليه بعض الشخصيات السياسية من خلال أحاديثها الاعلامية.
التظاهرات مستمرة، ولم نسمع حتى الآن أي رأي جماهيري يطالب بإنهائها أو تأجيلها ولو مؤقتاً، كون الشارع العراقي صار يتلمس حقيقة المكاسب التي حصلت عليها الأصوات المتظاهرة، حيث تم إقالة بعض المحافظين، بعد أن ادينوا بتهم أغلبها أخلاقية، فالفساد والسب والشتم وإتهام المتظاهرين بقلة الأدب وعدم الانضباط، هي مظاهر تشير بشكل واضح إلى انحدار اخلاقي لا يمكن السكوت عنه... ومن المقالين بقرار من الشعب الغاضب، محافظ البصرة شلتاغ عبود quot;إئتلاف دولة القانونquot; ثم محافظ بابل سلمان ناصر الزركاني (إئتلاف دولة القانون) وكذلك إقالة محافظ واسط لطيف حمد الطرفة quot;إئتلاف دولة القانونquot; من منصبه على خلفية اتهامات بالفساد.
أما استقالة محافظ كركوك عبد الرحمن مصطفى ورئيس مجلس المحافظة رزكار علي، فلم تكن مطلباً مباشراً من المتظاهرين، بل جاءت اعترافاً من المستقيلين إلى المتظاهرين، على عدم قدرتهما تقديم الخدمات للناس بالشكل المطلوب، بسبب التناحرات الحزبية والصراعات القومية داخل مجلس محافظة كركوك... في الفترة نفسها، تم إقالة وكيل وزير التربية علي الإبراهيمي quot;إئتلاف دولة القانونquot; بعد ان أساء quot;أخلاقياًquot; إلى شريحة المعلمين ووصفهم بالحمير (المطايا) في لقاء متلفز. ومنذ فترة قصيرة تم إقالة عادل محسن quot;إئتلاف دولة القانونquot; والذي يشغل منصب مفتش عام وزارة الصحة ومنسق عام المفتشين العموميين، على اثر اتهامه بالفساد واستيراد أدوية فاسدة، بالإضافة إلى إساءة quot;أخلاقيةquot; كبيرة وجهها إلى أطباء العراق في لقاء بُثَّ على شاشة القناة الفضائية العراقية الرسمية.
إن الحراك الجماهيري الواعي الذي شهدته شوارع وساحات العراق، نجح في الضغط على الحكومة العراقية لاتخاذ قرار التعجيل باطلاق سراح السجناء ممن لم تثبت التهم بحقهم، وقد تم بالفعل اطلاق سراح المئات منهم ndash; النسبة ضئيلة بالمقارنة مع عدد السجناء الهائل - رغم تسجيل بعض مظاهر الفساد في عملية الاطلاق هذه، حيث ثبت أن هناك البعض من المجرمين الذين اعترفوا بعمايات قتل، كانوا من ضمن المفرج عنهم. وكان المتظاهرون قبل هذا قد كشفوا عن جرائم وخِسّة quot;المخبر السريquot; الوظيفة quot;الخبيثةquot; ndash; وهي إحدى أساليب النظام البعثي المباد - التي نشطتها الحكومة العراقية الجديدة لتكمم أفواه الناس وتودعهم السجون السرية دون ذنب أو جريمة تذكر، إلا أن الأهم في هذا الحراك الجماهري يكمن في تحرك هيئة النزاهة في البرلمان العراقي لتكشف عن آلاف الوثائق التي تدين العديد من رجال الدولة العراقية بالفساد، ويقف على رأس هذه الوثائق، ما يتعلق بصفقة شراء ست طائرات كندية، والمتهم الأول فيها هو مستشار رئيس الوزراء والقيادي في حزب الدعوة أحمد عبد الامير السعداوي quot;إئتلاف دولة القانونquot;، ثم فضيحة شراء أجهزة الكشف عن المتفجرات (ADE-651) التي كلفت العراق ما يقارب 122 مليون دولار ليتضح أن الأجهزة غير صالحة للإستخدام وأن خبراء المتفجرات الأمريكان قد كشفوا عن أن سعر الجهاز الواحد المستورد بلغ 60 ألف دولار، فيما يباع الجهاز الواحد في أسواق بريطانيا بـ40 دولاراً فقط، وأن الصفقة تمت بأمر واشراف رئيس الوزراء الحالي، وأن المتهم الأول في هذه الصفقة المشبوهة هو قائد فرقة مكافحة المتفجرات اللواء جهاد لعيبي الجابري quot;إئتلاف دولة القانونquot; الذي يقيم رهن الإعتقال الآن.
التظاهرات، أدت أيضاً إلى فرض الإقامة الجبرية على كمال الساعدي، أحد أقرب مستشاري رئيس الوزراء نوري المالكي، بعد مشادة كلامية اندلعت بين المالكي والساعدي، على أثر ظهور الساعدي يوم التظاهر 25 شباط/فبراير وهو يقود قوات الأمن من على سطح المطعم التركي القريب من ساحة التحرير، حيث قام المالكي بتأنيب الساعدي مما حدى بالأخير إلى القول: quot;لقد وضعتنا بوجه المدفع وانزويت بعيداً، وأنت تعلم أن أبناء العراق يكرهوننا ولايعلمون أننا يدكَ التي تبطش وعينك التي ترى... نحن نتجسس لك حتى على حلفائكquot;. هذه العبارة الخطيرة بدلالاتها، أدخلت الساعدي تحت الإقامة الجبرية، ليسجل غيابه والخلاف بينه وبين المالكي مكسباً للمتظاهرين.
مكسب آخر حصدته التظاهرات العراقية، يتمثل بدعوة البرلمان العراقي إلى إجراء انتخابات مباشرة لانتخاب رؤساء وأعضاء المجالس البلبدية في الأقضية والنواحي، حيث أن أغلب من يحتل هذه المراكز اليوم، كانوا قد جاءوا بالقوة - قوة الأحزاب والهيمنة المناطقية ndash; منذ التغيير حتى الآن، وأن أغلبهم لا يمتلك أية مؤهلات تؤهلهم لشغلهم هذه المناصب، حتى الدراسية منها، وهذا ما تسبب في سرقات هائلة للمال العام صبت كلها في جيوب الأحزاب المتنفذة وأعضائها، ومما تسبب أيضاً في تردي الخدمات وانتشار الفساد بشكل مريع.
بالتأكيد يمكننا ملاحظة أن أكثر المُقالين والمتهمين بالفساد، هم أعضاء ينتمون إلى كتلة quot;إئتلاف دولة القانونquot; وأغلبهم من ينتمي إلى حزب الدعوة تحديداً، فهل يعني هذا أن هذه الكتلة والتي يتزعمها رئيس الوزراء هي الأكثر فساداً من بين الكتل المكونة للحكومة العراقية؟... السؤال غير بريء بكل تأكيد، ولكنه بحاجة إلى دلائل من داخل التركيبة الحكومية، أو على الأقل بحاجة إلى شهادات رسمية تثبت مصداقيته، وهنا علينا الإشارة إلى ما أدلى به رئيس الوزراء السابق الدكتور أياد علاوي منذ أيام قليلة، حين قُدم طلب داخل البرلمان العراقي للتحقيق بجريمة الفلوجة التي حدث عام 2004 أي في الفترة التي كان الدكتور أياد علاوي يشغل منصب رئيس الوزراء، مما يجعله المتهم الأول في القضية على حد قول البعض من أعضاء البرلمان، رغم أن الجريمة تمت بأيادي أمريكية. ولكن المهم هنا هو ما قاله الدكتور أياد علاوي، على أثر هذا الإتهام، حيث هدد بفتح جميع الملفات الخاصة بالمسؤولين لمحاسبة المسيئين ومكافحة الفساد المالي والإداري، وقال: quot;أن تعذيب المعتقلين في السجون يكفي لأن يكون جريمة بحق الإنسانية، والشعب العراقي يعرف من الذي يقمعه...quot; ثم طالب بالتحقيق مع رئيس الوزراء نوري المالكي على خلفية حادثة محافظة صلاح الدين بصفته القائد العام للقوات المسلحة وليس رئيساً للحكومة.
دليل آخر، ولكنه فاضح هذه المرة، هو ذلك الطلب المريب الذي وصل رئاسة البرلمان العراقي، بعد اشتداد المطالبات بكشف المفسدين بشكل علني ومحاسبتهم على جرائمهم وغيرها من المطالب التي قدمتها التظاهرات على طاولة البرلمان العراقي، والطلب المريب الذي نعنيه، هو الكتاب الصادر من رئاسة مجلس الوزراء، أي نوري المالكي شخصياً، والذي يطالب البرلمان بالتريث أو تأجيل تشريع خمسة قوانين تعد المطلب الأساس لأبناء الشعب العراقي بشكل عام والأصوات المتظاهرة بشكل خاص، وهي قوانين تختص بـ quot;ديوان الرقابة المالية، وهيئة النزاهة، والمفتشين العموميين، ومجلس القضاء الأعلى، والمحكمة الاتحادية.quot; مما يشير إلى التخوف الكبير لدى رئيس الوزراء وأتباعه من فضح الفساد وبالتالي فضح المفسدين وسحبهم للقضاء. ورغم أن مجلس النواب لم يوافق على طلب رئيس الوزراء، إلا أن هناك مؤشر خطير في هذا الطلب، وكان على مجلس النواب أن لا يمرره مرور الكرام، فكان عليه أن يسأل عن السبب الرئيس لتقديم مثل هذا الطلب الخطير! قد تكون رئاسة البرلمان تعرف الأسباب ورائه، ولكن من حق الشعب أن يعرف هذا أيضاً.
وأخيراً، نقدم الدليل الأبلغ والأكثر عمقاً، الذين جاء من عقر دار المتهمين وزعيمهم quot;الأوحدquot;، حين كشف القيادي في حزب الدعوة السيد سليم الحسني عن تحضير مؤتمر عام لقيادات وقواعد الحزب يعلن من خلاله عزل المالكي عن الحزب وذلك لإساءته إلى مبادئ الحزب والعملية السياسية بأتباعه نهج النظام السابق، وأنه استغل الحزب وحوله إلى جسر عبر من خلاله إلى السلطة، وإنه ndash; أي المالكي - أساء كثيراً للحزب وتسبب بضرر بالغ مسّ تاريخ الحزب والعملية السياسية بانتهاجه أسلوب النظام السابق... وبكل تأكيد فإن أساليب النظام السابق ليست خافية على الشعب العراقي، فهو الضحية المباشرة لذلك النظام الأرعن. ولعل الاشارة لتي جاء بها تصريح السيد الحسني، بأن المالكي يتبع أسلوب النظام السابق، تشير إلى ذلك العدد الكبير من البعثيين السابقين وبدرجات حزبية عالية، أدخلهم المالكي إلى صفوف حزب الدعوة، ومنحهم مناصب مهمة ومؤثرة على حساب العديد من مناضلين حزب الدعوة، حتى صار الشارع العراقي المتفكّه يطلق على الحزب تسمية quot;حزب الدعوة العربي الاشتراكيquot;.
تبقى المكاسب التي حققتها تظاهرات العراق حتى الآن، دون مستوى الطموح، رغم أهميتها، وتبقى التظاهرات العراقية المعبِّر الحقيقي لصوت الشارع العراقي والمواطن البسيط، وتظل المحرك الأهم لضمائر كل الخيرين من رجال حكومة العراق الجديد، المؤمنة بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
التعليقات