محمد القصبجي (15 نيسان 1892 ndash; 26 آذار 1966)

حسين السكاف: في الربع الأول من القرن العشرين ظهر حاملاً شكلاً جديداً من الموسيقى لم تعهده الموسيقى العربية من قبل، لم تكن القوالب السائدة آنذاك لتشبع عقلية فذّة، وطموح لا يقف عند حد.

صحيح أنه تعلم أصول الموسيقى وفنونها وأمسك بخبايا هذا العالم الساحر على يد من سبقه، لكنه كان متيقناً بأن المعرفة العلمية هي ما تنقص الموسيقى العربية آنذاك، فراح يبحث ويطلّع على تجارب من سبقه خصوصاً الموسيقى العالمية بتاريخها وإرثها الغنيين، حتى جاءت ثمرة تلك الجهود وبصوت أم كلثوم في أغنية quot;إن كنت أسامح وأنسى الأسية quot; (1928) التي أجلست فن المونولوج على عرش الثبات والتجدد لتتخلص الأغنية العربية من شكلها التقليدي، وتكون المقدمة الموسيقية المستوحاة من أجواء وعوالم الأغنية نفسها، مدخلاً مهماً يمهد للمستمع الولوج إلى عالم الموسيقى وسحر الكلمات المغناة.

إنه محمد القصبجي، الظاهرة الموسيقية التي حررت الغناء العربي من قيد الأسلوب التقليدي، لينطلق إلى التعبير ومداعبة واستفزاز روح المستمع عن طريق الموسيقى قبل الكلمة، ليكون هذا المبدع وعن طريق أعماله الإبداعية المحفز، بل والمستفز لغالبية معاصريه، على اتباع المنهج الموسيقي العلمي والمدروس في أعمالهم، ومن ثم نبذ الاستسهال والنمطية في التركيبة اللحنية.

فلقد تيقن الكثير ممن عاصره، من أن القصبجي في حقيقته عبارة عن بناء فني ضخم ومهيب، ومن يروم اللحاق به عليه أن يحذو حذوه، فخصوصية أعماله وذلك التأثير الذي أحدثته داخل الوسط الفني قبل المستمع، جعل من معاصريه أذهان وعقول منشغلة بدراسة فنه وأساليبه بهدف الارتقاء والوصول إلى ما وصل إليه القصبجي.

وتحت هذا الصراع ظهرت مواهب موسيقية مبدعة نهضت بواقع الموسيقى العربية، ومن ثم الأغنية، إلى أعلى مراتبها والتي أصبحنا ونحن ندخل الألفية الثالثة نتوق إليها، بل ونتحسر على فقدانها. تحت ذلك التأثير ومن داخل صخب الصراع، ظهر محمد عبد الوهاب، الذي تعلم على يد القصبجي العزف على العود، ودرس في حضرته علوم الموسيقى لمدة خمس سنوات، ثم رياض السنباطي ومحمد الموجي ومحمد فوزي وغيرهم.

وقد أمتد تأثيره إلى بلدان عربية أخرى، فتأثر به زكي ناصيف وتوفيق الباشا، ويذكر فكتور سحاب في كتابه السبعة الكبار: quot;أن في إستانبول معهد موسيقي باسم محمد القصبجي، اعترافاً بخطورة هذا الفنانquot;.

كان القصبجي يتمتع بفكر موسيقي سمفوني، كان لا يقرب الارتجال والجمل اللحنية المتداولة والبسيطة، فلقد أتخذ من دار الأوبرا المصرية مدرسة له، حيث أدمن حضور حفلاتها وأمسياتها، فما كان يسمعه من أعمال أوبرالية وسمفونيات عالمية جديرا بفضح الأساليب البسيطة التي كانت سائدة في عالم الأغنية العربية آنذاك، ليتكشف أمامه ما كانت تفتقر إليه الموسيقى العربية.

فراح يعمل على تثقيف نفسه وترميم بنائه الداخلي من خلال دراسة الموسيقى الغربية خصوصاً المرحلة quot;البوليفونيةquot; التي تعتمد تعدد الأصوات الموسيقية والتي يتربع على قمة هرمها الألماني quot;سباستيان باخquot; (1685-1750) الذي يعد تراثه خلاصة المدرسة البوليفونية من الناحية الأكاديمية والإبداعية.

ثم درس بتعمّق المرحلة الكلاسيكية quot;الهارمونيquot; التي تعتمد التوافق اللحني والتي ظهرت وتطورت على يد النمساوي quot;هايدنquot; (1732-1809)، لترسخ أسلوباً جديداً في النسيج الموسيقي، وتحتل محل البوليفونيا. ولم يفت القصبجي أن يحتك بالموسيقيين الدارسين في الغرب ليأخذ عنهم علوم الموسيقى الغربية، وبخاصة في مجال الأوبرا وفنونها.

خير دليل على ذلك التماهي مع الموسيقية الغربية، أغنية quot;يا طيورquot; التي سمعها الجمهور بصوت أسمهان عام 1941 والتي جاءت مقدمتها الموسيقية وكأنها مكتوبة بطابع سمفوني، ولكنها في الوقت نفسه متمسكة بطابعها الموسيقي العربي.

ويعترف محمد عبد الوهاب الذي عُرف عنه تحديث الموسيقى العربية عن طريق تطويع عوالم الموسيقى الغربية لخدمة الموسيقى العربية، بأن القصبجي كان سباقاً في استخدام الهارموني والبوليفوني بأسلوب علمي صحيح، وأنه أخذ منه أسلوبه في هذا الاستخدام، كما وأنه تأثر بما صنعه القصبجي في مجال المونولوج، ومنه جاءت أعماله quot;اللي يحب الجمالquot; وquot;الليل يطوّل عليّ quot; وquot; بلبل حيرانquot; وغيرها.

حظيت أعمال القصبجي بشهرة لم يحظَ بها هو شخصياً، وتلك ظاهرة غريبة إذا ما قورنت بما حظي به رفيقه الشيخ سيد درويش وزكريا أحمد، إضافة إلى شهرة الشاعر أحمد رامي، التي تجاوزت بكثير شهرة القصبجي، ثم ما حظي به تلميذه محمد عبد الوهاب.

وقد عزا بعض النقاد تلك الظاهرة إلى كونه ابتعد عن أداء أغانيه بصوته كما كان يفعل سيد درويش وزكريا أحمد أو عبد الوهاب، فمن منا لا يعرف أغنية quot;فرق ما بينا ليه الزمانquot; وquot;ايمتى حترف ايمتىquot; وquot;يا طيور غني حبيquot; بصوت أسمهان، وأغنية quot;يا صباح الخيرquot; وquot;رق الحبيبquot; وquot;يلي جفاك المنامquot; بصوت أم كلثوم، وتلك المداعبات الغنائية الجميلة بصوت ليلى مراد مثل quot;يا ريتني أنسى الحبquot; وquot;حبيت جمالكquot; وquot; أنا قلبي دليليquot; التي سمعها الجمهور للمرة الأولى في عام 1948 والتي قال عنها محمد فوزي quot;إنها أغنية عام 2000quot; ظناً منه وهو يعيش أجواء وتطورات الأغنية العربية آنذاك بأن الموسيقى العربية والأغنية ستستمر بتجاربها وتجدد فرسانها، ولكن للأسف فإن أغنية عام 2000 وما تلاها قد هبطت إلى درجة صار المستمع يحنّ إلى طقطوقة زمن القصبجي وزكريا أحمد والسنباطي.

* يعد محمد القصبجي (15. 04. 1892 ndash; 26. 03. 1966) الذي كرس حياته منذ الصغر إلى الفن والموسيقى والبحث والتجريب، أحد أهم الموسيقيين الذين طوروا الأغنية العربية من جانبها الموسيقي. وهو ينتمي إلى عائلة فنية موسيقية معروفة.

والده الشيخ علي إبراهيم القصبجي، كان عواداً فذاً وملحناً غنى له عبده الحمولي والشيخ يوسف المنيلاوي وسيد الصفطي وصالح عبد الحي وزكي مراد (والد ليلى مراد) ومحمد السنباطي (والد رياض السنباطي)، وكان منشداً ومقرئاً معروفاً في حي عابدين، وعرف عنه أيضاً كتابة النوتة الموسيقية للكثير من الملحنين الذين عاصروه.

وقد أحصى محمود كامل في كتابه quot;محمد القصبجي، حياته وأعمالهquot; 360 أغنية للقصبجي، كما لحن للمسرح قرابة 35 لحناً موزعاً بين خمس مسرحيات هي، المظلومة 1926، وحرم المفتش 1926، وحياة النفوس 1928، وكيد النساء 1928، ونجمة الصبح 1929. وله 91 أغنية لثمانية وثلاثين فيلماً سينمائياً، غالبيتها تنتمي إلى الطقطوقة التي يأخذ طابعها الأدائي شكل الأوبريت، فلقد كان معروفاً عن القصبجي بأنه يستمد مادة الطقطوقة من أجواء المشاهد السينمائية.

القصبجي وعمالقة الموسيقى الغربية

لا نجافي الحقيقة إذا قلنا، إن القصبجي لا يختلف كثيراً عن عمالقة الموسيقى الغربية الذين عملوا على تطوير موسيقى بلدانهم وموروثاتهم الموسيقية المحلية بالاعتماد على دراسة تاريخ الموسيقى العالمية وتطويعه لخدمة موسيقاهم المحلية دون المساس بخصوصيتها، وخير ما نعتمده في هذا المجال للكشف عن هذه الحقيقة، هو ما جاء به الباحث الموسيقي اللبناني سليم سحاب في مقال بحثي له بعنوان quot;الموسيقى العربية والهارمونيا quot; نشره عام 1995 على صفحات مجلة الحياة الموسيقية الصادرة في دمشق.

حيث ذكر أن (عباقرة الموسيقى الروسية مثل جلينكا وتشايكوفسكي ورخمانيوف وآخرون غيرهم الذين يشكلون المدرسة القومية الروسية الكلاسيكية لدى استعمالهم الألحان الروسية الشعبية أو لدى كتابتهم ألحاناً تحتوي على كل خصائص الموسيقى الشعبية الروسية، لم يعالجوا هذه الألحان بالهارمونيا الكلاسيكية الأوروبية، بل أوجدوا لغة هارمونية جديدة تتلاءم مع quot;السلم الموسيقي اللحنيquot; للموسيقى الروسية.

لذلك لم يضطر الموسيقيون الروس الكبار إلى تغيير التركيب الميلودي للألحان الشعبية الروسية التي استعملوها في أعمالهم الموسيقية. فبعدما عاد جلينكا، مؤسس المدرسة الموسيقية الروسية القومية الكلاسيكية من دراسته في إيطاليا وألمانيا وكتب سمفونيته quot;تاراس بولباquot; - وهي السمفونية الروسية الأولى - على أساس ألحان شعبية روسية جمعها لهذا الهدف، مزق سمفونيته هذه بالرغم من الألحان الشعبية، لكونه وجد أن الهارمونيا الكلاسيكية الأوروبية التي استعملها لم تنسجم مع الألحان الروسية الشعبية التي عالجها.

كذلك لم يتقيد شوبان، عبقري الهارمونيا، بالوظيفة الهارمونية الكلاسيكية في معالجة الألحان الشعبية البولونية التي استعملها في موسيقاه. إن اللغة الهارمونية الجديدة لمعالجة المادة الموسيقية ذات الطابع اللحني وصلت إلى ذروتها في الموسيقى الروسية مع موسورجسكي، وقد لفتت لغته الهارمونية الجديدة نظر أهم موسيقيي فرنسا المخضرمين quot;كلود ديبوسيquot; الذي ما إن عاد من روسيا إلى فرنسا بعدما تعرف إلى موسيقى quot;موسورجسكيquot; حتى انكب على دراسة الموسيقى الشعبية الفرنسية القديمة، فوجد الدلائل نفسها: quot;إن الموسيقى الشعبية الفرنسية مبنية على السلم الموسيقي اللحني، ولا يجوز إطلاقاً استعمال الهارمونيا الكلاسيكية في معالجتها.

من هنا ظهرت المدرسة الجديدة في الموسيقى الفرنسية quot;الموسيقى الانطباعيةquot; وما تبعها، المبنية أساساً على لغة هارمونية جديدة وضعت خصيصاً لتتلاءم مع طابع الموسيقى القومية الفرنسية. ومن هنا نجد أن المدرسة الموسيقية الروسية أبدعت لغة هارمونية جديدة تتناسب مع طبيعة اللحن الروسي، ولم يهمها أن هذه اللغة الهارمونية تتناقض مع قواعد الهارمونيا الأوروبية الغربية الكلاسيكية أو لا تتناقض، فالمهم عندهم كان ألا تتناقض مع روح الموسيقى الروسية.

كذلك ديبوسي بعد دراسته اللحن الشعبي الفرنسي استنبط هارمونيا جديدة تتناسب مع اللحن الفرنسي، كذلك فعل شوبان البولوني عند معالجته للحن الشعبي البولوني). من هنا وبالمقارنة بين التاريخ الموسيقي لمحمد القصبجي وما أحدثه من تطور في الأغنية العربية، وبين ما ذكره الباحث الموسيقي سليم سحاب، نجد الفكرة نفسها التي كانت تشغل تفكير القصبجي، في ضرورة إيجاد لغة هارمونية جديدة تتلاءم مع السلم الموسيقي اللحني العربي يبقي الأغنية العربية وموسيقاها محتفظة بروحها ومميزاتها، وهذا ما أثمر العديد من أعمال القصبجي وخير ما نتمثل به، أغنية quot;يا طيورquot; التي عرفناها بصوت الراحلة أسمهان.

[email protected]