محمد الحمامصي من القاهرة: وفقا للعالم البريطاني ريتشارد رانغهام أستاذ الأنثروبولوجيا الحياتية في جامعة هارفاد ونظريته الجديدة التي يدعوها quot;فرضية الطهيquot;، إن الإنسان صار إنسانا يمشي على قدمين، منتصب القامة، مكتمل الهيئة البشرية من رأس وعقل ومعدة وأمعاء، بفضل اختراع الطهي، بل يذهب إلى أن الطهي وراء كل شبكة الأفكار الإنسانية الأساسية من علاقات اجتماعية وزواج وروابط اقتصادية، حيث ساهم في التطور الكامل لمفهوم العائلة.
إن فرضية الطهي التي يطرحها ريتشارد رانغهام تذهب إلى أن البشر قد تكيفوا مع أكل الطعام المطبوخ بالطريقة الأساسية نفسها التي تكيف بها البقر مع أكل العشب أو البراغيث مع مص الدم أو أي من الحيوانات الأخرى مع طعامها المميز، quot;إننا مرتبطون بالطعام الذي تكيفنا معه، ونتائج ذلك تتخلل ثنايا حياتنا من الأجساد إلى الأدمغة، فنحن البشر، مخلوقات اللهب، القردة التي تجيد الطهيquot;.
إن ريتشارد رانغهام يحاول في كتابه quot;قدحة النار .. دور الطهي في تطور الإنسانquot; أن يقدم بديلا جديدا عن نظرية داروين في النشوء والتطور، ونظرية شتراوس في النيء والمطبوخ، فهو يستكشف في سياق كتابه الضخم أثر الطهي في تطور الإنسان، ففرضيته تؤسس لفكرتين أساسيتين أولهما أن الطهي هو الذي نقل الإنسان من حالة الرئيسات من غير البشر ليصل به إلى مرحلة الإنسان العاقل، وأن الطهي أطلق في الطعام طاقة إضافية ساعدت على نمو دماغ الإنسان، ووفرت له وقتا يكرسه للصيد وبناء المجتمع الإنساني المعروف، وهو هنا يرد على داروين وشتراوس اللذين قالا إن البشر لم يتأثروا بالطهي في تطورهم وكان بإمكانهم العيش من دونه.
وثاني الفكرتين أن النار هي التي طورت الإنسان إذ أتاحت له الطهي، ووفرت له في طعامه المطبوخ الطاقة الفائضة التي ساعدته على زيادة حجم دماغه وجمعته مع أقرانه حولها، لتزيد من صفاته الإنسانية المعروفة، ليخلص إلى أن ذكاءنا لم يخلق النار بل النار هي التي ساعدته على التطور وأن الطهي ليس واحدا من مهارات البشر بل هو المنطق لبلورة سائر المهارات.
يقول ريتشارد رانغهام quot;إنني أؤمن بأن لحظة التحول التي أسفرت عن ظهور جنس الإنسان، وهي واحدة من أعظم التحولات في تاريخ الحياة، قد نشأت عن السيطرة على النار وظهور الوجبات المطهية، فلقد زاد الطهي من قيمة طعامنا وغير أجسادنا وأدمغتنا واستخدامنا الزمن، وحياتنا الاجتماعية، وحولنا إلى مستهلكين للطاقة الخارجية، وبذلك خلق كائنات حية لها علاقة جديدة مع الطبيعة، كائنات تعتمد الوقود مادة أساسية في حياتها quot;
القرد الجنوبي أو quot;australopithecinesquot; ـ جنس متحجر قديم من فصيلة البشر ـ هو جد البشرية كما يرى ريتشارد رانغهام تربطنا به ثلاثة ملايين سنة من المطر والشمس والبحث عن الطعام في أحراش أفريقيا quot;لقد انقرض معظم قردة الجنوب، لكن ذرية جدتك تغيرت ببطء، حيث كان بين المحظوظين من منظر التطورquot;.
يشير ريتشارد رانغهام إلى أن أولى العلامات الدالة على التحول ظهرت قبل 2.6 مليون سنة وتمثلت في العثور على رقاقات حادة الحواف في قلب الصخرة الأثيوبية، وتشهد الشظايا على وجود قطع مستطيلة من الحجر شبكت بتأن لإنتاج أداة، وتشير علامات القطع على العظام المتحجرة إلى أن السكاكين البسيطة كانت تستخدم لقطع ألسنة الظباء الميتة والحصول على قطع كبيرة من اللحم باقتطاع شرائح عبر الأوتار من أطراف الحيوانات.
وقبل حوالي 2.3 مليون سنة بدأ أول سجل نهائي بالظهور ليشهد جنسا جديدا هو إنسان هابيلاين وإنسان هابيلاين هذا الذي مازالت معرفتنا به ضئيلة هو الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان، وبعد ظهور إنسان هابيلاين مرت آلاف السنين قبل أن يتسارع دوران عجلات التطور مرة أخرى، ولقد تحققت الخطوة الحاسمة الثانية ما بين 1.9 مليون إلى 1.8 مليون سنة خلت، حيث تطور البعض من صنف إنسان هابيلاين إلى الإنسان المنتصب، ومع ظهور هذا الصنف واجه العالم مستقبلا جديدا.
وبصدد توضيحه لتطور آليات الأسلاف صغار الأدمغة للحصول على اللحم أكد ريتشارد رانغهام quot;أن تزايد أكل اللحم قد كرس العديد من الصفات الإنسانية، مثل: السفر إلى مسافات بعيدة، والأجسام الكبيرة والذكاء المتطور والتعاون المتزايد، ولمثل هذه الأسباب بقيت فرضية أكل اللحم، التي تسمى في الغالب نظرية الإنسان الصياد تتمتع بقبول واسع بين الأنثروبولوجيين في تفسير التحول من القرد الجنوبي إلى الإنسانquot;.
إن الكتاب الصادر عن مشروع كلمة أحد مشروعات هيئة أبوظبي للثقافة والتراث جاء في ثمانية فصول وخاتمة، وترجمه د.فلاح رحيم رئيس قسم اللغة الإنكليزية في كلية العلوم التطبيقية في صور في سلطنة عمان، وقد خصص الفصل الأول للطعام النيء والثاني للطهي، وقال quot;تتكشف الفوائد التطورية للتكيف مع الطعام المطبوخ من مقارنة الأجهزة الهضمية للبشر مع تلك التي للشمبانزي وغيره من أنواع القردة العليا، وتتصل معظم الفروق بحقيقة أن البشر يمتلكون ملامح صغيرة نسبيا، فلدينا أفواه صغيرة وفكوك صغيرة وأسنان صغيرة ومعدة صغيرة، وقولون صغير، وقنوات هضمية صغيرة عموما، ولقد ساد الاعتقاد في الماضي أن هذا الحجم غير المعتاد لأعضاء الجسم يعود إلى التأثيرات لأكلنا اللحم، لكن تصميم الجهاز الهضمي للإنسان يمكن أن يفهم على نحو أفضل بوصفه تكيفا مع تناول الطعام المطبوخ منه مع تناول اللحم النيءquot;.
quot;لا شك أن النقلة في الطعام المفضل بين الشمبانزي والإنسان توحي بأن لنوعنا تحملا فسيولوجيا منخفضا للأغذية التي تحتوي على نسبة عالية من السموم، وحامض التنيك، ولأن الطهي يدمر، كما هو متوقع، العديد من أنواع السموم، فقد نكون طوّرنا ذوقا حساسا نسبياquot;.
ويؤكد رانغهام أن الفروق بين الطعام المطبوخ والطعام النيء تتجاوز الفرق الغذائي الطفيف الذي يميز الغوريلا عن الشمبانزيquot;هي متنوعة متعددة، وتتمثل تأثيرات الطهي في أنه يوفر طاقة إضافية وطعاما أكثر لينا، ووجبات قرب النار، وأصنافا من الطعام أكثر أمنا وتنوعا ومصادر موثوقا بها توفر الطعام في فترات القحط، لذلك فالمتوقع أن يزيد الطهي من فرص البقاء على قيد الحياة، خصوصا بين الصغار المعرضين للأخطار، ولابد أنه أيضا من نطاق الأغذية الصالحة للأكل لأنه يتيح الوصول إلى مناطق جغرافية حياتية جديدة، ويكون لزاما إذن أن تكون الفروق التشريحية بين سلفنا الذي مارس الطهي، وذلك الذي لم يمارسه، مساوية بين الغوريلا والشمبانزي، في الأقل، لذلك فحيثما اعتمد الطهي، تكن ملاحظة تأثيراته أمرا سهلا، ويمكن أن نتوقع أن العلامات الدالة على أصل الطهي تحمل تغيرات كبيرة وسريعة في التشريح البشري تتناسب مع الغذاء الأكثر لينا والأغنى طاقةquot;.
ويطرح ريتشارد رانغهام في الفصل الرابع سؤال quot;متى بدأ الطهيquot; ويرى انقساما بين علماء الآثار في هذا الشأن، مؤكدا أن الدليل الأثري يفتقر إلى الحسم، لذا فقد استخدم علم الأحياء بديلا من ذلك، ويشير إلى ثلاثة أحداث احتراق أولها في كهف فانغارد في جبل طارق قبل أكثر من ثلاثة وتسعين ألف سنة، وكهف عند ثغر نهر كلاسيس وهو موقع ساحلي في جنوب أفريقيا يتراوح عمره بين ستين ألفا وتسعين ألفا من السنين الخوالي، كما يوجد في كهف هيونيم في فلسطين عدد كبير من المواقد وترسبات الرماد يصل سمكها إلى أربعة سم ويعود تاريخها إلى 250000 عام مضت.
ويعدد ريتشارد رانغهام المزيد من المواقع التي اكتشف فيها استخدام النار، ويقول إن هناك مفتاحين للكشف عن السيطرة الأولى للبشر على النار من خلال علم الأحياء، quot;الأول يقدم سجل الأحافير صورة واضحة على نحو معقول للتغيرات في التشريح البشري خلال مليوني سنة أخيرة، فهي تخبرنا عن التغيرات الرئيسة في تشريح أسلافنا وزمن حدوثها، ثانيا تميل الأجناس استجابة إلى تغير رئيس في النظام الغذائي إلى إظهار تغيرات سريعة وجلية في تشريح بنيتهاquot;.
ويشير رانغهام إلى ما اقترحه علماء الأنثروبولوجيا من أن البشر ربما سيطروا على النار لأسباب تتعلق بالتدفئة والإنارة لآلاف السنين قبل أن يبدأوا استخدامها للطهي، ويرى أنه quot;أنه كان ثمة ثلاث فترات تسارع فيها تطور أسلافنا واشتد بما يكفي ليبرر تغييرات في تسمية النوع، إنها الفترات التي أنتجت الإنسان المنتصب قبل 1.8 مليون سنة، وإنسان هايدلبرغ قبل 800000 سنة، ثم الإنسان العاقل 200000 عام، تلك إذن الفترات الوحيدة التي يمكن أن نستنتج أن الطهي قد اعتمد فيهاquot;.
ويوضح ريتشارد رانغهام في الفصل المعنون quot;رحلة الطهيquot; أنه من الخطوات المهمة في تحول النار إلى جزء محوري في الحياة البشرية الإبقاء عليها ليلا quot;لنفترض أن أفرادا من إنسان هاييلاين قد حملوا زندا خشبيا مدخنا، خلال النهار ليحميهم من الحيوانات الضارية ثم تركوه أسفل شجرة النوم، التي يتسلقونها لتحضير عش مبيتهم، فليس من المستبعد عندها أن يوفروا للخشب مزيدا من الوقود، بحيث يبقى الزند مشتعلا إلى اليوم التالي، وربما بعد أن يلاحظوا حدوث ذلك عن طريق الصدفة أولا ولا نبتعد خطوة أصغر عن تلك الحال، إذا افترضنا أنهم سيفكرون في الجلوس إلى النار للإبقاء عليها مشتغلة والاستفادة بذلك من حمايتها ونورها ودفنهاquot;.
ويقول رانغهام quot; حين تتمكن مجموعة من إنسان هابيلاين من الإبقاء على نارها مشتعلة في الليل في مكان معين، فإنها تسقط نتفا من الطعام، عن طريق الصدفة، ثم تأكلها بعد أن تسخن، فتدرك أن طعامها قد تحسن، ومع تكرار هذه المجموعة عاداتها تلك، تكون قد تطورت بسرعة إلى الرعيل الأول من الإنسان المنتصب، ذلك أن الغذاء الشهي الجديد المطبوخ قد أدى إلى تطوير قناة هضمية أصغر، وأدمغة وأجساد أكبر، وتقليلها من شعر الجسم وإحرازها من ثم مزيدا من الجري، ومزيدا من الصيد، وتحقيقها حياة أطول، وأمزجة أهدأ واهتماما جديدا بالاقتران بين الإناث والذكور، ورجحت ليونة طعامهم النباتي المطبوخ انتخاب أسنان أصغر، ومكنتهم حماية النار، المتوفرة ليلا من النوم على الأرض، وفقدان قدرتهم على التسلق، ويحتمل أن تكون النساء قد بدأن الطهي للذكور الذين تزايد وقت الفراغ لديهم، ما أتاح لهم إمكانية البحث عن مزيد من اللحم والعسل، وهكذا بينما استمرت مجموعات أخرى من إنسان هابيلاين في أماكن أخرى من أفريقيا، في أكل طعامهم نيئا لمئات الآلاف من السنين، فإن مجموعة واحدة محظوظة أصبحت الإنسان المنتصب، ومن هنا بدأت الإنسانيةquot;.
ويضع ريتشارد رانغهام فصلا عن علاقة الطهي بالزواج حيث يشير إلى أنه على الرغم من رغبة الرجال في ممارسة طهي اللحم في الغالب، فإن الطهي إجمالا كان أكثر الأنشطة اقترانا بصورة المرأة، إلى حد يزيد قليلا عن إعداد الطعام النباتي، أو جلب الماء، وكانت النساء مسؤولات عن الطهي بشكل سائد أو حصري تقريبا في 97.8 % من المجتمعاتquot;.
ويلفت إلى أن فكرة أن الطهي قد أدى إلى الاقتران بين الجنسين تنطوي على مفارقة على مستوى العالم، quot;فقد أتى الطهي معه بفوائد غذائية كبيرة، لكن تبنيه أدى بالنساء أيضا إلى زيادة كبيرة في خضوعهن لسلطة الرجل، الذي كان المنتفع الأكبر، كذلك حرر الطهي وقت النساء، وأطعم أطفالهن، لكنه أوقعهن في فخ دور التابع الذي فرضته ثقافة يهيمن عليها الذكور، لقد خلق الطهي وخلد نظاما جديدا من التفوق الثقافي للذكور، إنها صورة تفتقر إلى الجمالquot;.
على أية حال الكتاب طويل وضخم حيث يقع في 366 صفحة من القطع المتوسط، لكن ترجمته الراقية والأسلوب والصياغة وطبيعة الموضوع الشيقة والممتعة، تجعل منه كتابا مهما للقراءة بامتياز.
يذكر أن مؤلف الكتاب ريتشارد رانغهام، أستاذ الأنثروبولوجيا الحياتية في جامعة هارفارد الأميركية منذ عام 1989، ولد عام 1948 في بريطانيا، وحصل على شهادة البكالوريوس في علم الحيوان من جامعة أكسفورد عام 1970، وعلى شهادة الدكتوراه في علم الحيوان من جامعة كمبردج عام 1975، عن أطروحته المعنونة ب quot;البيئة السلوكية للشامبانزي في محمية غومبي، تنزانياquot;، وله العديد من الكتب والبحوث التي تركزت في مجال علم الاجتماع البيولوجي، والبيئة والتطور الاجتماعي، وعلاقة سلوك الرئيسات بتطور الإنسان، ومن كتبه المهمة: quot;علم البيئة والتطور الاجتماعيquot; وquot;ثقافات الشامبانزيquot; وquot;مجتمعات الرئيساتquot; وغيرها.
أما المترجم فهو فلاح رحيم رئيس قسم اللغة الإنكليزية في كلية العلوم التطبيقية في صور في سلطنة عمان، ولد في العراق عام 1956، وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية الآداب جامعة بغداد عام 1978، وعلى الماجستير في الأدب الإنكليزي من كلية الآداب،جامعة بغداد عام 1989، وقد مارس الترجمة منذ عام 1978، ونقل إلى العربية العديد من الكتب، مثل: quot;الذاكرة في الفلسفةquot; وquot;الأدبquot; وquot;القراءات المتصارعةquot;.