الحلقة الاولى

محمد غازي الأخرس من بغداد: من الكتب التي تحاول استعادة حكاية مجتمع الصرائف، كما ذكرنا، كتاب quot;مدينة الثورة / الصدر حاليا.. دراسات تاريخية معاصرةquot; لمؤلفه كاظم عبد الجبار شنجار البيضاني وهو رجل مسن حاول توثيق استيطان الجنوبيين في بغداد بلغة شعبوية شيقة.
يصف هذا الشاهد أحوال الجنوبيين الذين سكنوا منطقة quot;العاصمة quot; أو quot;خلف السدةquot; واستمرار تدفقهم إليها وعملهم في معامل الطابوق المنتشرة فيها. يقول أن نزوح الأهالي لتلك المستوطنة إنما كان بسبب وجود معامل طابوق في المنطقة الواقعة خلف سدة ناظم باشا في شرق بغداد القديمة والمنطقة المقصودة تمتد طولا من ملعب الشعب محاذية السدة ـ الطريق السريع حاليا ـ حتى تصل إلى شارع المعارض المؤدي لجسر السنك. أما عرضا فتمتد من قناة الجيش لتصل إلى السدة نفسها.
يروي المؤلف:quot; أن الظروف المعاشية أجبرت العامل أن يعمل هكذا عمل بدون ضمان أو قيد أو شرط بأجرة يومية قدرها 200 فلس لليوم الواحد وعلى مدار السنة وآخرون يقبضون 150 فلسا علما أن العامل الذي ينخرط في عمله لا تحسب له أجرة يومية إذا مرض، يبقى في بيته وتنقطع عنه أجرته اليومية quot;. ص154
لقد شكل أولئك العمال ما يشبه مجتمع العبيد، في الواقع، فهم يسكنون في أكواخ حقيرة للغاية ويتلقون أدنى الأجور في أسوأ ظروف عمل يمكن أن يتخيلها المرء: quot;ولهذا نرى السكان في أيام الحر وخاصة في فصل الصيف يقضون ثلاثة أرباع الوقت في العمل والربع الأخير في معالجة الذباب داخل المنازل حيث تراودهم قرصات البعوض والحرمس وتحرمهم من لذة النوم طول الليل. وفي الصباح الباكر يذهب إلى العمل الشاق مع تعب اليوم الماضي وسهر الليل باقيا على الحالة التي كان عليها في اليوم الماضي. رغم الظروف الصعبة والروائح الكريهة والقاذورات ودخان المعامل الأسود ـ معامل الطابوق ـ التي تحيط بمساحة المنطقة يزداد البناء كل شهر وسنة وتزداد الهجرة والترحال quot; ص 155
مفهوم الاغتراب الذي يتحدث عنه معظم الروائيون المنحدرون من هذه الصرائف يتجذر ها هنا إذن، أي في الإقامة بمستوطنات بعيدة عن المدينة الحقيقية، مستوطنات تشبه الواحدة منها quot;الخمquot; الذي ترآى لتماضر، بطلة quot;النخلة والجيرانquot; حيث أستأجر لها حسين ابن الخبازة حجرة وسط مجتمع quot;الشراكوهquot; الغريب والمغترب.
لنر كيف يتذكر سليم مطر السجن نفسه، فعالم quot;الشاكريةquot; لا يختلف في شيء عن quot;الميزرةquot; وquot;خلف السدةquot; وحتى quot;خان حجي محسنquot; المنتصب في الكسرة. ثمة أسوار مجازية رهيبة تفصل العالمين، عالم الصرائف وعالم المدينة الفعلي. يروي مطر في quot; اعترافات رجل لا يستحيquot; قائلا: quot; لعل ذكرياتي الأولى عن الشاكرية تعود إلى سن الرابعة 1960. كنا زمرة الأطفال الحفاة، في طريقنا إلى ضفاف دجلة (الشط)، نضطر إلى اجتياز منطقة (كرادة مريم) المحاذية، بوجل وعجل، كما يجتاز الكبار حدود البلدان الأجنبية. كنا نشعر بأننا نجتاز بلاداً أخرى، بقصورها الفارهة وكنيسة الأرمن الكبيرة الخلابة وسياراتها النظيفةquot; ص 36.
ويستمر سليم مطر في ذكرياته مقتربا، بجرأة، مما يمكن تسميته بفكرة quot;الوضاعة الثقافية quot; إذ يضغط المنحدر quot; غير الرفيع quot; على أبناء تلك الجماعات التي قررت quot; التطفل quot; على عالم المدينة. والحال أن الإحساس بوطأة quot; الوضاعة quot; هذه لم يكن ذا بعد طبقي فقط بل كان ذا طابع ثقافي قبل أي شيء ؛ أثناء مقارنة quot;مطرquot; بين أهالي quot; كرادة مريمquot; وأهله في quot; الشاكرية quot;، مثلا، لن ندهش من قوله: quot;رجالها ـ كرادة مريم ـ مدنيون تقدميون أفندية بثياب عصرية، ونساؤها سافرات أنيقات بيضاوات حمراوات صفراوات مثل حوريات الجنة. يختلفون عن أهالينا الشرگاوية التعبانين، وآبائنا المعـگلين (لابسي العقال) المتخلفين، وأمهاتنا اللواتي مهما كنَّ جميلات أو بيضاوات، فإنهن يبدون بعيوننا ملحات كالحات شاحبات، لأنهن مبقعات بحزن وفقر وسواد. وعندما سألتُ أخي الأكبر (قيس) عن سرِّ البشرة الرقيقة البيضاء التي يتميز بها هؤلاء المدنية، قال لأنهم يغتسلون يومياً بالحليب. فعاهدت نفسي، عندما أكبر وتصير عندي فلوس، بأني سأغتسل يومياً بالحليبquot;. ص38
وكما هي عادة الفقراء المتطفلين كان أطفال الشاكرية يقتنصون، كما يروي سليم مطر، فترات الظهيرة، quot; حين يهجع أبناء كرادة مريم لكي نجتاز بلادهم بسرية وخوف ونحن حفاة راكضين بحثا عن ضفاف دجلة. نتسلق أعمدة الأسس العملاقة ونبحث في المزابل عن لقى نادرة تخلى عنها الأغنياء سهواquot;.
النتيجة الخطيرة لكل هذا هو الآتي: quot;كلما مرت أعوام الطفولة والمراهقة والشباب الأول تفاقم شعوري بأجنبيتي عن أهلي وبلادي، لم أصادف أي شخص أو جهة أو كتاب علمني محبة الوطن. حتى الكتب المدرسية لم تدفعني للانتماء إلى بلد أسمه العراقquot;.

الحديث باللهجة الدارجة.. أبناء الصرائف يستردون مخيالهم
ليس ثمة أي شك أن كتابا مثل quot;مدينة الثورة / الصادر حاليا.. دراسات تاريخية معاصرة quot; أو رواية مثل quot; خضر قد والعصر الزيتوني quot; ما كان لهما أن يصدرا في أيام دولة البعث السابقة. والسبب ببساطة أنهما مكتوبان وفق مخيال يختلف جذريا عما اعتادته الثقافة العراقية التقليدية. والمخيال هنا يشمل كل عناصر ما يسميه بيير بورديو quot; الرأسمال الرمزيquot;، أي ذلك الذي يشمل كل عناصر الثقافة التي تقبع في الذهن بغض النظر عن quot;تدنيها quot; أو quot;رفعتهاquot;.
في كتابه quot; مدينة الثورة..quot;، يوثق كاظم عبد الجبار شنجار كل شاردة وواردة لم تجد طريقها للتدوين سابقا، أسماء العشائر، المحلات، المطربون الشعبيون، الأسواق، أوائل المهاجرين، أشهر الباعة المتجولين، أسماء الفرق الشعبية، محال التسجيل وغير ذلك. أنظر له ماذا يكتب حول فتح الأسواق الشعبية في مدينة الثورة: quot; والسنة الأولى فتحت الأسواق الشعبية على الشوارع العامة والساحات القريبة من الشوارع، وأول سوق فتح على شارع الجوادر هو سوق مريدي وهو رجل كبير كان يبيع السجائر في رأس الشارع المذكور وابنه جبار مريدي الذي كان صاحب مقهى في الشاكرية. وفتحت أسواق كثيرة في جميع القطاعات مثل سوق إجماله وهي امرأة كانت تبيع السمك في منطقة الكيّارة في بسطية quot;. ص 187
وبالتأكيد لا يكتفي المؤلف بمجرد التوثيق الكتابي بل يشفع ذلك بصور فوتغرافية تمثل المؤلف بدشداشته وعقاله وهو يتجول في مرافق مدينة الثورة.
نحن، بالأحرى، أمام نوع من كتابة تاريخ المهمش والمقصي وغير المعترف به، وهذا الأمر يتعدى الكتابة التاريخية ذات اللغة المتدنية كما هو حاصل مع كتاب البيضاني ليصل إلى ما يمكن عده نوعا جديدا من الثقافة العالمة. ولعل أفضل مثال على هذا الأنموذج رواية نصيف فلك quot; خضر قد والعصر الزيتوني quot;.
لنر كيف يوثق نصيف فلك ولادة بطل روايته المدعو quot; خضر قد quot; ومفردة quot; قد quot; هذه تطلق في اللهجة الشعبية بمعنى: جديد. يقول: quot; أمواج دجلة تزمجر جارفة بيوت الطين والصرائف جارفة معها المحامل الخشبية بكل طواقمها: دواشك القطن واللحف والمخدات والبطانيات وصورة بت المعيدي تغط وتنط تحاول الإفلات من الغرق في المقابر المائية فقط تتفسخ ذكراها إلى دمعة مجهولة المالك.
تتلابط بين الأزقة: ألواح خشب عائمة مع قدور فافون وطشوت، كوفيات ويشامغ ودشاديش، سرعان ما تطمس تحت الأقدام بينما الآباء والأمهات يحتضنون أطفالهم ويجذبونهم من بين أشداق الأمواج المتوحشة quot;. ص 73
الفكرة التي نريد الإشارة إليها لا تحتاج إلى كثير شرح فالرجل، هنا، يقدم حشدا من رأسماله الرمزي ؛ محامل خشبية، دواشك،، لحف، quot;بت المعيديquot; ـ ماركة سمن قديمة ـ قدور فافون، طشوت، يشامغ، دشداديش. وهذه العناصر تحيل رأسا إلى الجنوبيين من سكنة الصرائف التي يحاول نصيف فلك توثيق، لا بعض حكايات عذابهم حسب، بل طريقة انفعالاتهم وتحسسهم للعالم وطريقة رؤيتهم لذواتهم وتاريخهم.
نقرأ له أيضا: quot;وللمرة الأولىquot; لا بل عقلي قندرة قديمة مرقعة وقلبي جلف صخر جلمود. تسللت مثل حرامي من أمام الأبواب ـ شبيك تتختل ـ تسمع أنفاسهم وشخيرهم وأنين كوابيسهم مع شذرات جمل مبتورة من حوادث أحلامهم.. أيباخ..ألم يفتك بك الحنين إلى البيت ورائحة جو العائلة. فوطة أمك تفوح بعنبر الهور، ألم تشم الوسائد والمخدات وquot; اللولquot; المحشوة بريش طيور المسكة والخضيري..طيور الماي ورائحة اللحاف المبلل بدموعك حين كنت تبكي كل ليلةquot;. ص 49
إن المسألة باختصار أن نصيف فلك، الأديب الذي يتعاطى بلغة عالمة، لا يخرج قيد شعرة عما يفعله ابن مدينته كاظم عبد الجبار شنجار، الراوي الشعبوي الذي يكتب دون مراعاة لمعايير اللغة الأدبية السليمة ؛ الاثنان يعتمدان على الرأسمال نفسه والاثنان يحاولان إعادة سرد الحكاية ذاتها. حكاية أبناء الصرائف الذين تفتحت شهيتهم للكتابة بعد زوال دولة البعث.