لقد اشتهر فى كتب الحديث والروايات كما ذكره الإسلاميون من مختلف الفرق والطوائف والمذاهب الإسلامية القديمة والحديثة، الحديث النبوى المشهور (افترق اليهود إلى 71 فرقة كلها إلى النار ولم تنج إلا فرقة واحدة، وافترق النصارى إلى 72 فرقة كلها إلى النار ولم تنج إلا فرقة واحدة، وسوف تفترق أمتى إلى 73 فرقة كلها إلى النار إلا فرقة واحدة هى الفرقة الناجية يوم القيامة) وقد تباهت الكثير من الفرق الإسلامية بين أصحابها ومقلديها أنها الفرقة الوحيدة الناجية بشهادة نبوية من الحديث المذكور أعلاه، محتكرة الحق والحقيقة وهى غافلة عن الكثير من الأسس الموضوعية والحيادية فى الدراسة العلمية للمقارنة بين الفرق ونشأتها ومبادئها وعقائدها فضلا عن تأثرها بالفرق الأخرى وتغير عقائدها. علما أن الحديث من أضعف الأحاديث سندا ودلالة كما ذكرته من قبل، لكن المسلمين قد افترقوا فعلا إلى فرق عديدة وكثيرة ومختلفة وبمراجعة بسيطة إلى كتب الفرق والملل والنحل مثل كتاب (الملل والنحل) لعبد الكريم الشهرستانى (479-548 هجرية) و(الفرق بين الفرق) لعبد القاهر البغدادى (ت429 هجرية) و(مقالات الإسلاميين) لأبى الحسن الأشعرى (ت303 هجرية) و(الفصل فى الملل والنحل) لابن حزم الظاهرى (ت 384) وكتب فخر الدين الرازى وأبى المظفر الأسفرايينى وجعفر السبحانى وغيرهم. بل أن الفرقة الواحدة قد تشعبت إلى 73 فرقة كالشيعة حيث كتب الفقيه الشيعى الحسن بن موسى النوبختى (ت 310 هجرية) وعلى نهجه الفقيه سعد بن عبد الله القمى فى القرن الثانى الهجرى كتاب (فرق الشيعة) الذى طبع مرارا وكتب مقدمة له فقهاء شيعة مثل هبة الدين الشهرستانى مادحا وموثقا كما وثقه فقهاء الشيعة فى كتب رجالاتهم المعروفة كالطوسى فى فهرسته والنجاشى فى رجاله والمامقانى فى رجاله وغيرهم. يقدم النوبختى كتابه (فرق الشيعة) بالحديث النبوى أعلاه حول افتراق المسلمين إلى 73 فرقة، وواحدة فقط هى الناجية يوم القيامة وهى بزعمه فرقته فقط ويدعى حياديته الكاملة، لكن الغريب أنه يقسم الشيعة فقط إلى 73 فرقة ومنها سمى كتابه (فرق الشيعة) ولم يسمه (فرق المسلمين) لأنه من الإخباريين الإيرانيين فى نظريتهم باعتبار المسلمين والمؤمنين يقتصر على الشيعة فقط فالسنة كفار برأيهم حيث لايؤمنون بولاية على ولايتبرؤون من الخلفاء فإن من فى قلبه ذرة حب للشيخين يكون فى قعر جهنم مخلدا فيها حسب دعواهم الباطلة، علما أن نوبخت عائلة فارسية والكلمة تعنى (حظ جديد) وقد كان والد المؤلف منجما وقارئا للكف والحظ وقد تأثر المؤلف بذلك كثيرا لمن يراجع سيرته وكتبه.
يذكر النوبختى نشوء فرقة السبأية بزعامة عبد الله بن سبأ الذى دعى إلى ألوهية الإمام على بن أبى طالب واستحالة موته وهو يسمع كل نجوى ويلمع فى الظلام ويوجد فى كل مكان وزمان. كما يذكر النوبختى حوارات بين ابن سبأ والإمام نفسه حتى أراد الإمام حرقه فى النار فقال (لايحرق بالنار إلا الله) ثم نفاه ولعنه وطرده من البلاد. قصة السبأية ذكرتها الكتب الشيعية القديمة بالإجماع حتى الكتب الأربع وذكرها الطوسى والمفيد والنجاشى والقمى والكلينى والصدوق والمرتضى والرضى والمفيد لكن تشكيك بعض المتأخرين لادليل عليه أبدا ولعل أول من شكك بذلك طه حسين لشبهة حركة عبد الله بن سبأ الواسعة وتأثيرها، ثم تأثر بها آخرون بعده. قال النوبختى أن ابن سبأ أول من أظهر السب واللعن للخلفاء الراشدين والغلو فى الإمام إلى درجة الألوهية.
كما يذكر النوبختى انقسام الشيعة إلى فرق أبناء الإمام على بن أبى طالب، من الحسن و الحسين و محمد ابن الحنفية، فمنهم من قال بإمامة محمد ابن خولة الحنفية وهم الكيسانية واعتقادهم ببقائه حيا ولم يمت ولا يزال يعيش فى جبال رضوى بين مكة والمدينة وعن يمينه أسد وعن يساره نمر يحفظانه، وللكيسانية جمهور كبير منهم المختار الثقفى حامل راية (يا لثارات الحسين) وفعلا قد قتلوا من قتلة الحسين وأصحابه، ومن الكيسانية الشاعر كثير غزة القائل:
ألا وإن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط لايذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء
يغيب لايرى فيهم زمانا برضوى عنده عسل وماء
وكذلك الشاعر إسماعيل الحميرى القائل
لقد أمسى بجانب شعب رضوى تراجعه الملائكة الكلاما
وما ذاق ابن خولة طعم موت ولاوارت له الأرض عظاما
ثم انقسمت الكيسانية إلى فرق متعددة. ومن الفرق الأخرى البيانية وادعاء بيان أنه النبى وتأويل قوله تعالى (هذا بيان للناس وهدى) به نفسه وقد رد جميع الفرائض والشرائع والسنن ثم يذكر النوبختى فرقا شيعية قالت بأن روح الله كان فى آدم، وكل الأنبياء آلهة تنتقل الروح من واحد إلى آخر وزعموا أن الدنيا لاتفنى واستحلوا الزنا والشذوذ الجنسى، وبعضهم يعتقد أن الأئمة هى الآلهة الحقيقية على الأرض وإبطال القيامة والبعث واستحلوا ما حرم الله حتى حلل البعض نكاح الأمهات والأخوات والبنات ونشوء فرق غلو كثيرة كالمغيرية أتباع المغيرة بن سعيد تلميذ الإمام الصادق وقد دس فى أحاديثه آلاف الأحاديث ثم أسس مذهبا للغلو فى الأئمة وسب الخلفاء وإباحة المحرمات، ومن الفرق المغالية الحزمونية والمزدكية والدهرية والمغيرية والخطابية، وهذه الأخيرة مثلا آمنت بأن أبا الخطاب كان نبيا مرسلا ثم ملكا مقربا وقد أباح المحرمات والشذوذ كله، لكنه قوتل وجماعته قتالا شرسا حتى قتل وقطع رأسه وبعث به إلى المنصور فوضعه على باب بغداد 3 أيام ثم أحرقه.
الملاحظ أن فكرة الأئمة الأثنى عشر هى فكرة متأخرة لم تؤمن بها أكثر الفرق بل حتى فى عصر الأئمة الإثنى عشر لم يسمعوا بها فاقتصروا على أئمة آنذاك دون وصولها إلى إثنى عشر بسبب عدم ارتكازها فى ذهنهم العرفى والشرعى آنذاك فلذلك توقفت فرق عديدة على الإمام آنذاك ولم تنتقل إلى إمام بعده كالناووسية التى وقفت على جعفر الصادق والواقفية على موسى الكاظم وغيرها، ومنها من قالت بإمامة أرحام الأئمة كالسميطية المؤمنة بمحمد بن جعفر الصادق والإسماعيلية لإسماعيل بن الصادق والفطحية لعبد الله بن الصادق والأحمدية لأحمد بن موسى الكاظم ومن قال بإمامة جعفر بن على الهادى وكلها لم تؤمن بمحمد المهدى... ومنها من قال بإمامة أصحاب الأئمة مثل الخطابية أصحاب أبى الخطاب والمغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد وهو من أصحاب الصادق، وغيرهم كثير كما ذكر النوبختى والقمى فرقا شيعية أخرى كاليونسية والمباركية والممطورة والقرمطية والنميرية والنصيرية وغيرها كثير.
يذكر النوبختى والقمى وغيرهما أن الشيعة بعد العديد من الأئمة ينقسمون أنفسهم إلى فرق متعددة كشيعة جعفر الصادق الذين انقسموا بعد وفاته إلى 6 فرق مختلفة فرقة واحدة منها آمنت بموسى الكاظم، كما أن شيعة الحسن العسكرى بعد وفاته انقسموا بدورهم أيضا إلى 14 فرقة يذكرها بالتفصيل ولم تكن الإمامية الإثنا عشرية إلا واحدة منها فقط وهى أقلية آمنت بوجود طفل عمره خمس سنوات لم يره سوى الخادم وحكيمة ثم اختفى فى السرداب خوفا من المعتمد العباسى... والباقون كلهم كانت لهم فرقهم المختلفة الثلاثة عشرة وهم الأكثرية آنذاك وهى كلها لم تؤمن بمحمد المهدى المنتظر.
الملاحظ أن الكثير من الفرق قد اضمحلت بمرور الزمان لكن بعضها لازالت موجودة إلى يومنا هذا مثل العلوية والنصيرية المغاليتين فى الإمام على إلى درجة أقرب إلى الألوهية ومبيحة المحرمات ولاتمارس العبادات عادة وتؤمن بالتناسخ وتوجد فى سوريا وتركيا وإيران، والزيدية المؤمنة بزيد بن على بن الحسين وقد أخذت أفكارها من المعتزلة فقد درس زيد على يد أستاذه المعتزلى واصل بن عطاء وأفكارهم فيها جانب عقلى وفقههم يميل إلى السنة، علما ورود مدح زيد فى كتب الإمامية المعتمدة مدحا كبيرا (زيد أعلمنا وأفقهنا وأتقانا)، والزيدية تحترم الخلفاء الراشدين ولاتكفرهم ولاتسبهم ولاتلعنهم ولاتؤمن بالعصمة ولاتحدد الأئمة بالإسم من ذرية الحسين بل تضع ضوابط ومن توفرت فيه شروط يمكن أن يكون إماما بل آمنت بتعدد الأئمة فى وقت واحد ومركز تواجدهم فى اليمن، والإسماعيلية وهى فرقة كبيرة آمنت باسماعيل بن جعفر الصادق باعتباره الولد الأكبر والحرى بها واستدلوا بكل ما ورد رقم 7 فى القرآن على مذهبهم كما استدل الإثنا عشرية بكل رقم 12 فى القرآن. علما أن الدولة الفاطمية هى من الأسماعيلية كما أنهم انقسموا إلى مذاهب متعددة ودول مختلفة وحكومات متعددة، ومن فرقها الآغاخانية المشهورة لزعيمها آغا خان، والدروز المؤمنة برسائل الحكمة ولها قرآن (المصحف المنفرد بذاته) وتؤمن بالتناسخ والخلوة ولايمكن التعرف للدرزى حتى يبلغ الأربعين من شيخ العقل ليأخذ عليه العهد والميثاق فى الخلوة وهى فرقة موجودة فى سوريا ولبنان، والبهرة حيث تؤمن باستمرار وجود الإمام وليس غيبته فتذهب فائدته وأصلهم فى الهند وينتشرون فى شرق أفريقيا، والإمامية الإثنا عشرية وقد انقسمت إلى فرق كثيرة متعددة منها الإخبارية والأصولية وضراوة المعركة بينهما، وغيرها.
ولابد من معرفة أن الكثير من الفرق قد تطورت أو تأخرت متأثرة بفرق وأفكار وعقائد أخرى فضلا عن الظروف المحيطة بها حيث يلاحظ تطور فكرة الإمامة والعصمة وعلم الغيب والمهدوية والبداء والتقية والغلو والتولى والتبرى والتكفير وغيرها.
ثقافة الفرقة الناجية المنتشرة رغم أن دليلها ضعيف وواه فهى تجعل النظرة الى الذات مقدسة وعظيمة وأن كل ما تحمله فرقتهم هو الحق كله، فيدور الحق مدارها وجودا وعدما، بينما النظرة للفرق الأخرى نظرة ازدراء ورداءة فى توهم أن كل ما يحملونه هو كفر وضلال وباطل رغم منافاته للعقل والحديث النبوى (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها ولو من الكافر)، كما أن حديث الفرقة الناجية جاء بنسق مكذوب مثل انقسام اليهود إلى 71 فرقة والمسيحيين إلى 72 فرقة والمسلمين إلى 73 فرقة وهو غير ثابت ويمكن التشكيك فيه وفى ترتيب هذه الأرقام فيدخل فى بحثنا السابق (الأحاديث الموضوعة) ونسقه الذى يشم منه رائحة الوضع فضلا عن ضعف سنده ورواته. وإذا كان الشيعة قد انقسموا إلى 73 فرقة فى القرن الثانى الهجرى بقول الفقيه الشيعى النوبختى والقمى وغيرهم، فالسؤال المطروح فعلا كم فرقة نشأت بعد ذلك أى بعد أكثر من ألف سنة على تأليف ذلك الكتاب فى القرن الثانى الهجرى ونحن الآن فى القرن الرابع عشر، وما أكثرها حقيقة ولعلنا نكتب عن الفرق الأخرى لاحقا خصوصا وقد حارب بعضهم بعضا وكفر بعضهم بعضا واستباح بعضهم بعضا؟ ولكن هذه الثقافة تتعارض كليا مع القرآن الكريم وروحه حيث يقول الله تعالى يقول (واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا) وقد كان المسلمون مذهبا واحدا أيام صاحب الرسالة لكعبة واحدة وقائد واحد وعبادة واحدة وقد قال الله تعالى (ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) (ولاتكونو كالذين تفرقوا واختلفوا) (إنما المؤمنون إخوة) هذا وقد أوصى النبى الكريم المسلمين جميعا (لاترجعوا من بعدى كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض) (من قال لمسلم أنت كافر، فقد كفر) وهكذا ينبغى تأسيس ثقافة المحبة والسلام واحترام الآخر لاثقافة البغض والحقد والتكفير والإنتقام.
التعليقات