الأغلبية الساحقة في سوريا ضد الطائفية. ليس هناك، من خارج النظام، في سوريا من يدعو إلى الطائفية. ثورة سوريا ثورة شعبية. هذا هو ما يخرج به أي متابع للوضع في سوريا، ليس سوى ثورة شعبية يغذيها شارع سوري بمختلف أطيافه لإسقاط النظام السوري الطائفي.
بعد أربعة أشهر من بدء الحراك الشعبي لإسقاط نظام البعث، وبعد أن حاول النظام السوري مواكبة هذا الحراك بعدة إجراءات بدءاً بالخطابات الواعدة أن الإصلاح هو الخيار الأول للحكومة، ثم تحولت بفعل ضغط الشارع إلى الخيار الأمني فأعاد بشار الأسد احتلال المدن السورية، وأطلق أيدي شبيحته سعياً منه لإخافة الجماهير وفض التجمعات الشعبية التي لم تطالب بإسقاط نظامه حتى الخامس والعشرين من إبريل. إعادة احتلال درعا بعد أربعين يوماً من بدء الحراك الشعبي السوري كان نقطة تحول هامة، هناك كانت بداية المطالبة بإسقاط النظام الذي يتفق السوريون على أنه ليس أكثر من نظام ستاليني قمعي حكم سوريا بالحديد والنار لنصف قرن من الزمان بدستور شبه معطّل وبآلة عسكرية يقظة لقمع أي صوت خارج عن مشيئة حزب البعث. إذن، لا رفع حالة الطوارئ ولا الخيار الأمني كان مجدياً. لتبدأ مرحلة الدعوة للحوار. وهي المرحلة الثالثة التي صنعت فيها الحكومة السورية معارضة صورية وقامت بتسويقها إعلامياً دون أي أثر حقيقي في الشارع السوري الغاضب، والذي يزداد غضبه بشكل يتوازى مع كل إجراء يتخذه النظام السوري للحد من التحرك الشعبي.
المشكلة السورية تكمن في عدة نقاط تم تداولها في وسائل الإعلام بشكل موسّع، ولعل من أبرزها: الحكم الاستبدادي لحزب البعث والذي يسهر على تنفيذ دستور مشوه تم تفصيله على مقاس حافظ الأسد ومن ثم عائلته، والتعتيم الإعلامي الذي صاحبه عدة مهازل إعلامية باهتة لتغيير الحقائق على الأرض، ووجود أوهام وطنية حول شعارات لم تعد مجدية، حتى لعدد من أركان النظام السوري أو من المنتمين لحزب البعث، كاستهداف سوريا المقاومة والصمود، وهذا ما جعل الإعلام السوري يسوّق لوجود مندسين يقومون بقتل وتصفية الجمهور السوري الذي يطالب بشكل متحضر بحقوقه في مقابل أن هؤلاء المندسين لا وجود لهم في الطرف الآخر من المعادلة حين يتعلق الأمر بـquot;هتيفةquot; الرئيس ممن تتم تعبئتهم لتحقيق توازن ما يخدم الدعاية الإعلامية الرسمية أمام من لم يحسمون أمرهم في الداخل السوري، أو لاستمالة أطراف خارجية للدعوة لاستقرار سوريا في ظل قيادة يؤيدها السواد الأعظم من الشعب السوري.
إذن الحكم الملق لحزب البعث، والتعتيم الإعلامي، وتسويق الأوهام القومية والشعارات البائدة، هي الركائز الأساسية التي تجعل من النظام السوري الطرف الأضعف في زمن لم يعد يقبل قلب الحقائق أو تزييفها. لكن الأمر الأكثر خطورة هو ما قام بتسويقه بعض أبواق النظام، في الشهرين الأولين للحراك الشعبي، من أن سوريا لا يوجد في داخلها معارضة. هذه، بالتأكيد، نقطة تُحسبُ لمصلحة شعب سوريا المطالب بسقوط نظام بشار الأسد، فعدم وجود معارضة في الداخل هي الدال الأكبر على أن الجو السياسي العام في سوريا ليس صحياً ولا صحيحاً حتى من الناحية الدستورية التي كانت تؤكد على ديمقراطية الحكم السوري وتعدديته. إلا أن الوقوع في مأزق كهذا لم يمنع الحكومة السورية من الدعوة للحوار، ولأن الحوار يحتاج إلى معارضين في الداخل فقد تم صناعتهم على عجل وانطلقت جلسات الحوار الوطني السوري بمباركة من النظام السوري حين عهد لنائب الرئيس السوري بافتتاح جلسات هذا الحوار الوطني والاستماع لمطالب المعارضة، التي يمكن وصفها بالرسمية، دون أي التفات للمعتقلات التي تكدس فيها شرفاء سوريا، وبقيت الساحة فارغة للمرتزقة ممن قبلوا تمثيل دور المعارضة.
المنعطف الأخير، وقد بدأ النظام السوري يسوقه بشكل أكثر وضوحا كمرحلة تلي مرحلة الحوار الفاشلة، هو التخويف من حرب طائفية. بإمكان النظام هنا أن يؤكد على وجود أخطاء وتجاوزات جعلت من النظام السوري نظاماً استبدادياً بحكم الضرورة والظروف التي تمر بها المنطقة، ويعد، وهذا ما حدث فعلاً، بتحسين التمثيل السياسي لكافة الأطياف السورية والوعد بإصلاحات دستورية. لكن المأزق القادم الذي تضع الحكومة السورية مستقبلها رهن نجاحه هو صعوبة المقامرة حول هذه النقطة تحديدا، إذ سيؤدي الإقرار بوجود حكم فردي إلى تقديم المزيد من التنازلات دون أن يستطيع تبرئه النظام نفسه من الطائفية. فالمؤيدون لنظام بشار الأسد لا ينطلقون من إيمان بإيديولوجيا الحزب، بل من منطلقات نفعية بحتة، إذا استبعدنا فرضية تعبئة الجماهير قسراً لتأييد القائد الضرورة بشار الأسد، كما أن تسويق الوهم بأن أتباع حزب البعث هم من مختلف الطوائف في سوريا لا يلغي حقيقة أن العناصر الأمنية الفاعلة، كفرق الجيش النظامي وليس الاحتياط وكذلك فرق المخابرات، مكوّنة من طائفة واحدة. إضافة إلى الانتماء الطائفي الموحّد لفرق الشبيحة أو تبعية بعضهم لحزب الله في لبنان.
الورقة الأخيرة التي سيلعبها حزب البعث في سوريا هي الورقة الطائفية، متبرئاً منها بالنظر إلى قاعدته الشعبية ممن ينتمون لحزب البعث على اختلاف طوائفهم ومحاولاً التعتيم على حقيقة فاعلية الأجهزة الأمنية والجيش والشبيحة ممن ينتمون لطائفة واحدة. وهي ورقة مناسبة في ظل فشل الإصلاحات ثم الخيار الأمني ثم الحوار على التوالي، وفي ظل اقتراب حلول شهر رمضان الذي قد يساعد الحكومة السورية في جرّ الطائفة السنية في سوريا إلى صراع طائفي تحتاجه حكومة البعث لتبرير خيارها القادم والنهائي، بالضرورة، حين يصبح القتل مهمة مقدّسة للجيش العربي السوري لقمع الفتنة الطائفية وسحق الحراك الشعبي السوري بشرعية تامة لن تعدم تأييد غالبية السوريين في الداخل كما أنها ستربك مواقف كثير من الدول والمنظمات في الخارج.