رغم أن الوقت مبكر على تقييم رصين لنتائج أو لحصاد ثورة الشباب المصري في الخامس والعشرين من يناير 2011، إلا أنه بعد مرور عام على بداية أحداثها، فإن الرؤية لطبيعة ما حدث ومن ثم ما يحتمل أن يحدث لابد وأن تكون أكثر نضجاً، وقد اتضحت وحسمت الكثير من الخيارات التي كانت في البداية مجرد احتمال، أو حتى كانت مخفية عن عيون الراصد. . يهمنا هذا التنويه أيضاً تحسباً لتوقعات عالية لقارئ تعود على انتظار القول اليقين، وتهتز ثقته بدرجة أو بأخرى إذا لم تأت الظروف بما توقعناه أو توقعه، ذلك أن رصد سلوكيات الإنسان وتوقعها لا يأتي أبداً بذات درجة اليقين التي نراها في رصدنا للعالم الفيزيائي، وإن كانت هذه أيضاً لا تخلو تماماً من شواذ، فمن مثلاً في داخل مصر أو خارجها توقع أن يحصل التيار الديني في الانتخابات البرلمانية على نسبة تقترب من 75% من الأصوات؟!!

middot; بعيداً عن الجانب الأيديولوجي أو العقيدي، ومن وجهة نظر عملية براجماتية محضة، فإن تولي الإسلاميين للحكم هو الوضع الأمثل للمجلس العسكري، الذي لعب طوال الستة عقود الماضية دوراً محورياً في السياسة المصرية، ويأمل أن يمتد نفوذه في العهد الجديد، فعندما يحكم الإسلاميون الذين يتوجس منهم العالم ويتوجسون منه، لن يكون غير العسكريين ملاذاً للجميع، للإسلاميين الذين يرون في المجلس واسطة بينهم وبين العالم، حتى لا تتكرر على أيديهم تجربة غزة الحمساوية، كما يجدهم العالم ملاذاً له، ليلجم شطط المتأسلمين ويضعهم تحت ضغط دائم، كما تتعلق به عيون وقلوب الليبراليين ودعاة الدولة المدنية، لينقذ رقابهم وظهورهم من سيوف وسياط المجاهدين في سبيل الله!!. . هي ذات لعبة نظام مبارك مع تغييرات هامشية، ولم يكن هذا الوضع المميز يتحقق للمجلس العسكري لو تولى حكم البلاد تيار مدني ليبرالي قادر على التواصل المباشر مع العالم دون حساسيات أو معوقات. . وهذا يفسر لنا سر التغاضي أو التجاوز للبند الرابع من البيان الدستوري ومن قبله المادة الخامسة من دستور 71، والذي يحرم العمل السياسي على أساس ديني، وتم الترخيص لكافة درجات طيف التيارات الدينية بأحزاب شرعية شكلاً، وفاقدة الشرعية والدستورية مضموناً!!

middot; هكذا نجح الإخوان المسلمون في تحصيل ما يستحقونه بجدارة تاريخياً وشعبياً، وإذا كان استلامهم الوشيك لمقاليد السلطة في مصر سيؤدي بداية لتعاظم ميلهم الحالي للرؤى المعتدلة من قبيل quot;التقيةquot; أو quot;الإيهام في القولquot;، ليقتربوا أكثر وأكثر من أداء quot;حزب العدالة والتنميةquot; التركي، ليتوصلوا في النهاية إلى مراجعات حقيقية جوهرية لمرجعياتهم وتنظيراتهم، فيقبلوا بالعمل السياسي في ظل دولة علمانية وطنية، فإنهم عندها يكونون بالفعل أو أوفوا بالشعار الذي رفعوه أخيراً وعلى مضض وهو شعار quot;نحمل الخير لمصرquot;، هذا بالطبع ما لم يكونوا عاجزين عن التطور كما عهدناهم طوال أكثر من ثلاثة أرباع قرن، وتمسكوا برؤاهم المتخلفة الظلامية، وهو ما تظهر أيضاً مؤشراته في أخبار على وتيرة: quot;اعتبر الدكتور محمد بديع، المرشد العام لجماعة ''الإخوان المسلمين''، أن الجماعة أصبحت قريبة من تحقيق ''غايتها العظمى''، والتى حددها الإمام حسن البنا، مؤسس الجماعة، وذلك بإقامة ''نظام حكم عادل رشيد بكل مؤسساته ومقوماته، يتضمن حكومة ثم خلافة راشدة وأستاذية العالم''. . ليحق لنا أن نتساءل في حيرة، كيف يفكر هؤلاء الناس، إن صح أن نعتبر ما يتفوهون به فكراً: أستاذية العالم في ماذا وبماذا ونحن عالة على العالم المتحضر، أم هي أستاذية في الفقر والجهل والمرض؟!!

middot; ونجح السلفيون في الحصول شعبياً على أكثر بكثير مما يستحقون، وسوف يلعبون في الساحة السياسية دور المشاغب المزايد لا أكثر، وسيكتشفون مع مناصريهم من عامة الشعب أن مقولاتهم تصلح فقط لترديدها في الغرف أو الكهوف المغلقة، لكنها غير صالحة للتطبيق العملي الآن، بذات القدر الذي لم تكن به صالحة في أي عصر من عصور التاريخ الإسلامي، الذي تصدر السلطة فيه دائماً رجال دنيا وليس رجال دين.

middot; ونجح العروبيون تلقائياً وبالتبعية في الحصول على نظام حكم ndash; وإن كان إسلامياً - على هواهم من حيث معاداته الكلامية الحنجورية لأمريكا وإسرائيل، فليس لدى العروبجية غير هذا يقولونه ويصرخون به ليل نهار، ومن هنا اتساق التحالف خلال الانتخابات بين قادة حزب عروبي مغمور منعدم الجماهير وبين حزب الإخوان المسلمين، فالحقيقة التي ربما يغفل عنها البعض هي أن العروبجية والمتأسلمين وجهان لعملة واحدة، تستمد رصيدها من العداء والكراهية للآخر.

middot; ونجح أقباط البابا (أو المتأقبطون) في الحصول على مبررات لدوام الارتماء تحت أقدامه المقدسة، مع الازدهار المتوقع لدور الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في ظل دولة إسلامية لابد وأن يحرص قادتها على احترام وتوظيف دور الكهنة في اختزال الأقباط في شخوصهم، استمراراً للمنهج الذي سار عليه الحكام منذ انقلاب العسكر عام 1952، وإن كان من الصعب عودة الشباب القبطي الذي خرج من عباءة الكهنة إليها ثانية، وهذا بالطبع يتوقف على قدرة العهد الجديد على فرض قبضته الحديدية على الشعب المصري بصورة عامة، ورغم أن فرص نجاح أي حكم استبدادي في إعادة المصريين إلى حالة السكون والخنوع تبدو ضئيلة، إلا أن الأقباط في حالة حدوث هذا سيجدون أحضان كهنتهم مفتوحة، وسيجدون جرعات مضاعفة من حقن خطاب الكنيسة التخديري التغيبي، ولا عجب في هذا، فقادة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية جزء عضوي من تحالف الظلاميين الذين يقفون عقبة أمام تطور مصر، وهو التحالف الذي كنا نأمل أن تفضه ثورة الشباب.

middot; ونجح quot;حزب الكنبةquot; أو quot;الأغلبية الصامتةquot; في الحصول على استقرار سريع ونظام حكم يليق بهم ويليقون به، فهذا الحزب هو القوة التصويتية الضاربة للتيارات الدينية، جماهير غفيرة لا تعلم شيئاً عن السياسة والسياسيين اللهم إلا فساد الجميع، ولا تعرف غير الدين ملاذاً، وغير المتحدثين باسم الإله قادة تتوسم فيهم التقوى والأمانة المفقودة. . هؤلاء لا يعنيهم حريات سياسية أو حتى اجتماعية، وأقصى طموحهم هو quot;السترquot;، والاحتمال ضئيل أن يتمادى الحكام الجدد في جهالتهم لدرجة حرمان العامة من هذا quot;السترquot;، فلو فعلوا ستكون نهايتهم تحت أحذية ذات الجماهير التي أوصلتهم لسدة الحكم!!

middot; الفاشل الوحيد هو هامش ضئيل (بالنسبة لمجموع الشعب) من الشباب الحالم والعلمانيين الأصلاء، الذين أرادوها ثورة من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، ودفعوا ثمنها دماء سالت ومازالت مستمرة في النزيف، فخطفتها الجماهير العريضة من أيديهم، لتسلمها لدعاة التخلف والظلام والكراهية.

middot; الآن وبعد عام من الثورة يتأكد ما تنبأت به في المقال الذي نشرته إيلاف يوم 19 سبتمبر 2010 بعنوان quot;الإخوان والفوضى غير الخلاقةquot;، وأعيد نشره بعد الثورة بعنوان quot;للتذكرة والتذكرة تنفع العلمانيينquot; ، من أن اللاعب الأساسي في الثورة كان جماعة الإخوان المسلمين، وقد تحقق لهم بالفعل كل ما يريدون، وأنا لا أخلع بالطبع على ما حدث توصيف quot;مؤامرةquot;، فالإخوان المسلمون طرف مصري أصيل، ولقد أجادوا التخطيط لما يريدون ونجحوا، وعلى سائر الأطراف الأخرى الفاشلة أن تتحلى على الأقل بشجاعة الإقرار بالهزيمة.

middot; الآن ونحن في التوقيت السنوي المعتاد لتفجيرات الكنائس، فإن المجلس العسكري مسؤول مسئولية مباشرة كشريك في حالة استمرار هذه النوعية من الاحتفال برأس السنة، فهو من أطلق علينا الإرهابيين من المعتقلات والسجون والمنافي. . بالطبع التفجيرات في الكنائس أهون مما نسمعه من الإرهابيين عن قيامهم بادعاء حمايتها، منتهى السفالة والإجرام أن يقوم مفجرو الكنائس وحارقوها وهادموها بتنصيب أنفسهم حامياً لها، والدولة في جميع الحالات تقف كالأبله في المولد، ومن المهازل أن نقرأ خبراً يقول: quot;محافظ الجيزة لقياداته التنفيذية: حماية الكنائس laquo;فرضraquo;quot;. . يالها من مهزلة، الواجب الوظيفي والوطني أصبح quot;فرضاًquot;، وغداً قد يخرج علينا من يقول هدم وتفجير الكنائس فرض وجهاد في سبيل الله!!

middot; أتوقع في المرحلة القادمة انتشار ظاهرة quot;المتحولونquot; إلى التأسلم السياسي ربما إلى درجة التطرف، وكذا سيتكاثر quot;المتأرجحونquot; أمثال د. وحيد عبد المجيد و د. عمرو الشوبكي و د. السيد البدوي، الذين يتأرجحون بين العلم الذي حصلوه وبين هواهم وميولهم الدفينة العروبية المتأسلمة التي يطفح بها خطابهم، أو لنزعة الرأسمالي للتجارة بأي بضاعة رائجة في الساحة، ليكون قيام هؤلاء في البرلمان وفي الساحة السياسية بوظيفة quot;المحللquot; إياها عوناً للتيارات الظلامية، وليس العكس مثلاً بأن يكونوا واسطة للتقارب والتوافق بين الفرقاء!!

middot; نشهد الآن بداية توجه السلطة لحملة تكسير عظام للثورة ممثلة في منظمات المجتمع المدني، في معرض اتهامها بما يسمى quot;تهمة التمويل الأجنبيquot;، ذلك بالطبع استناداً للصمت المساند من التيار الديني صاحب الشعبية الهائلة، ولا ندري إلى أي الحدود ستذهب مثل هذه الحملة، وإن كانت ستؤدي في النهاية إلى استئصال روح وشجاعة الثورة لدى الشعب المصري، أم سيتضح أن إرادة الشباب في الحرية تستعصي على الكسر أو الترويض.

middot; نشهد أيضاً مع الساعات الأخيرة من العام 2011 استئنافاً لمسلسل الاعتداءات الطائفية على الأقباط، ربما ليثبت رؤوس الفتنة لنا أنهم أقوى من الزمن ومن الثورة، وأن وجودهم وفعالياتهم الإجرامية تكاد تكون هي الثابت الأعظم على أرض مصر التي تغلغل التعصب في شرايينها ونخاعها الشوكي، والأغلب أننا لن نشهد تغييراً من السلطة في نهج معالجتها لمثل تلك الحوادث، لتظل في نطاق التهوين والإنكار والإسناد لطرف ثالث، ليغلق الجرح مؤقتاً على ما به من صديد بما يسمى صلحاً عرفياً، انتظاراً لجولة جديدة من الجهاد في سبيل الله بحرق بيوت النصارى أعداء الله.

middot; كنت دائماً أتشائم من الأغنية التي يقول مقطع فيها: quot;على قد نيتنا إديناquot;، حتى جاءت الثورة والانتخابات ليحل أوان أن يأخذ الشعب المصري على quot;قد نيتهquot; بالفعل. . ماذا لو قرر العالم الحر بقيادة أمريكا معاملتنا بما نستحق، وليس بالصبر وسياسة إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟!. . أخاف ألا يجد العالم الحر حلاً معنا إلا ذلك الذي جاء في رواية ألبير كامو quot;الطاعونquot;، حيث ضرب الطاعون مدينة وتعذر محاصرة المرض، فقررت الدولة حصار المدينة، لا يدخل ولا يخرج منها أحد، حتى أخذ المرض مداه ومات من مات وبدأ الوباء في الانحسار، وبعدها فقط رفعوا الحصار عن المدينة!!

وكل عام والشعب المصري كما هو منطرح على رصيف الأحلام كما قال نزار قباني، وحتى لو حاول النهوض لايلبث أن ينكفئ على وجهه!!

مصر- الإسكندرية

[email protected]

middot; المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو شخصية العام بلا منازع، فقد أبلى بلاء حسناً طوال العام، وحقق ربما فوق ما يريد، فقد نجح في قمع الثورة والسيطرة عليها أو كاد، ونجح في إدارة البلاد تحقيقاً لأهدافه، سواء كانت حماية نفسه والمؤسسة العسكرية، أو حماية الدولة المصرية ذاتها من الانهيار، ونجح معهم وبهم نظام مبارك في الإفلات من طوفان الثورة، واقتصرت خسائره على عزل قمته، فالنظام لم يكن حقيقة مجرد نظام لمبارك وبلاطه، وإنما كان بالأساس نظام ثورة يوليو 1952، الذي يمكننا القول بأنه خرج من محنة الثورة متماسكاً حتى الآن، فأقصى ما حدث هو إسناد السلطة للجناح الآخر لما سميناه quot;حركة الضباط الأحرارquot; وهو جناح جماعة الإخوان المسلمين، التي حرمها العسكر مبكراً من نصيبها في السلطة، بالطبع إلى جانب الجناح العسكري الحاضر دوماً بصورة علنية أو مخفية، دستورية كانت أم عرفية.