أحب بداية أن أوضح رفضي المطلق لنظرية المؤامرة الشائعة في بلادي وفي سائر أنحاء ما يسمى بالعالم العالم العربي، فالمؤامرة تعني أن أشراراً قد دبروا للأخيار مصيبة تحل بهم، وهذا لا يتحقق إلا في الأفلام العربية الرديئة، فمهما بلغت مهارة من تتصورهم أعدائك، لن يستطيعوا إلا استغلال ضعفاتك، أو اللعب بما هو متواجد بالفعل في ساحتك، علاوة بالطبع على أن هذا العداء المطلق من جميع الشعوب لنا لا وجود له إلا في مخيلاتنا المريضة بعداء مزمن للعالم متأصل في ثقافتنا، وهو يختلف جوهرياً عما هو طبيعي من اختلاف الرؤى والمصالح بين الأفراد والجماعات والشعوب، والذي لابد وأن يترتب عليه سعي كل طرف لتحقيق مصالحه، ليكون علينا في حالة اكتشاف أن هناك من يعمل بالفعل ضد مصالحنا، أن نبحث في ذواتنا وسلوكياتنا عما يجعله مضطراً لضرب مصالحنا، التي لابد وأنه يراها معادية له، فالبشر الأسوياء فكراً وثقافة ومصالح لا يكون بينهم عداء، وإنما بالأقصى تنافس شريف، لا يستدعي مؤامرة أو تآمر، أما العداء المجاني فلا يوجد إلا في أذهان تسيطر علها هلاوس البغضاء والتكفير لكل آخر!!
بالطبع هناك دول مجاورة تنفق بسخاء للترويج لثقافتها ونظمها البدائية في مصر، لكنها لم تكن لتحقق أي قدر من النجاح لولا أنها تعتمد على عناصر مصرية أصيلة، وعلى استعداد وقابلية فائقة لدى الشعب المصري لتقبل ما تروج له، بل ومن قبيل المغالطة القول بأن الفكر الظلامي هو فكر صحراوي وارد لمصر من الخارج، فهو صناعة مصرية خالصة، فحسن البنا وسيد قطب وأيمن الظواهري وكل رجالهم وأشياعهم مصريون أصلاء!!
هكذا يكون من عبث القول ما لا يمل المجلس العسكري المصري من ترديده عن quot;اللهو الخفيquot;، الذي يدبر مؤامرات لتدمير مصر وإحراقها على رؤوس أهلها، وربما الأصح أن هناك عباقرة يوسوسون للمجلس العسكري بسياسات يتصورونها تمكنه من السيطرة على الناس، لتكون النتيجة المزيد والمزيد من التورط والفشل، ولا يعني هذا بالطبع الثقة في دوافع المجلس العسكري، أو ما يسمى تأييده أو إخلاصه للثورة، بل ربما كان العكس هو الصحيح، حيث يمكننا النظر بمعنى مختلف لتخلي مبارك عن سلطاته للمجلس العسكري، فلم يكن هذا بالنسبة للطرفين يعني اعترافاً بثورة لتغيير النظام، وإنما تخلى الجالس في الصدارة عن دوره في التصدي للثورة لمن هم أقدر على ذلك، ونستطيع بناء على هذا فهم كل تحركات وتوجهات المجلس العسكري بعد ذلك بصورة أفضل وأكثر اتساقاً.
فبعد فتحه السجون والمعتقلات للقتلة والإرهابيين الذين تلطخت أيديهم بدماء المصريين والأجانب، ليتم استقبالهم - بطريقة رسمية وشبه رسمية - استقبال الأبطال العائدين من ميادين الجهاد، وصرف الملايين لهم كتعويضات (أو تمويل مستتر)، وبسرعة غير مسبوقة في صرف مثل هذه التعويضات، لتتلقفهم القنوات الفضائية ليصيروا نجوم الساحة السياسية وحكماءها الذين يحددون معالم دولة مصرستان القادمة، لا نكون مغالين إذا قلنا أن المجلس العسكري هو المسؤول عن فتح مجلس الشعب المصري لسيطرة التيارات التي يجب معاملتها معاملة النازية والفاشية، ولولا نظام الانتخاب بالقائمة الذي قاومه المجلس لبعض الوقت لحصل الظلاميون على 99% من مقاعد مجلس الشعب. . هو أبشع انتقام من الثورة والثوار، كما هو محاولة ناجحة تثبت للجميع - في الداخل والخارج - صدق ما كان يقوله مبارك طوال الوقت، من أن الاختيار منحصر بينه وبين حكم الظلاميين الإرهابيين!!
أبحث الآن عن طرف أو جهة لأؤيدها وأرتكن لمناصرتها فلا أجد، فكلنا مذنبون مجرمون مخادعون ومهرجون. . كلنا نذهب ببلادنا وبأنفسنا للجحيم، فالحيرة بين المجلس العسكري والظلاميين كالحيرة بين حنان زوج الأم والرعاية الكريمة لإمرأة الأب، لكن مهما بلغ تهديد الظلاميين لمستقبل مصر وشعبها، لا يجب أبداً أن نتراجع للخنوع لحكم ديكتاتوري عسكري، لنعود لنقطة البداية قبل 25 يناير 2011، حتى لو ثبت لدينا أن الشعب المصري سواء بنتائج الانتخابات أو بالموقف من فعاليات الثورة، لا يستحق أن يكون أباً للشباب الرائع الذي نهض رافضاً الخنوع والاستبداد، ولا يستحق حكماً أفضل من حكم مبارك.
العشوائية هي أن تطبق نظريات علمية، سواء كانت كيميائية أو فيزيائية أو اقتصادية أو سياسية، دون توافر الشروط الصحيحة واللازمة لتأتي النتائج مطابقة لما تقول به هذه النظريات، فكما أن إعمال مبدأ السوق الحر quot;دعه يعمل دعه يمرquot; يحتاج إلى توافر شروط محددة للسوق الحر، لكي تتحقق نظرية الرشادة التي تقول أن سعي الفرد الحر لتحقيق مصالحه يقتضي بالتبعية تحقيق مصالح المجتمع، كذا الديموقراطية تحتاج لتوافر شروط وظروف معينة، لكي يأتي تطبيق آلية صندوق الاقتراع بالنتائج المرجوة لصالح المجتمعات والشعوب، وإلا كنا كمن يطالب بديموقراطية القرار في مستشفيات الأمراض العقلية، ليقوم النزلاء بانتخاب الأطباء والإدارة ومدير المستشفى. . ديموقراطية حتى خراب مالطة!!
عشوائية الاقتصاد والإسكان أو عشوائية الحياة اليومية هي أساس عشوائية الفكر، ولا جدوى من تنوير لا يصاحبه أو حتى يسبقه تغيير مادي لنوعية وطبيعة العلاقات الاقتصادية والظروف المعيشية. . البلطجية وأطفال الشوارع وما يسمى quot;حزب الكنبةquot; هم الآن لاعب بجانب الثوار الأنقياء والظلاميين والمجلس العسكري، وهم جزء من الشعب المصري الذي أنتجهم، ولا معنى لإلقاء اللوم عليهم لنبرئ أنفسنا، هم منا ونحن منهم. . هم نتاج حياتنا العشوائية.
في غمرة نقدنا للقيادات العسكرية والأمنية على العنف المفرط في استخدام القوة مع المتظاهرين، لا ينبغي أن نغفل عن دلالة أداء الأفراد المتجرد من الإنسانية، بل وردود أفعال قطاع لا يستهان به من الشعب، فهي جزء من انحطاط الإنسانية المتواكب مع موجة التدين الكاسحة. . هنا جذر مأساتنا الذي نجده في سلوكياتنا اليومية، مروراً بالخطاب السلفي والممارسات الطائفية الخالية من الإنسانية حتى في صورها البدائية، وليس انتهاء بانتهاك الجسد الإنساني للمتظاهرين أو حتى البلطجية. . لقد تم تجريف الإنسانية لصالح ثقافة الوحشية البدائية والكراهية!!
في مناقشة لي مع فني حاصل على دبلوم صنايع وواضح أن تدينه عادي ولا يتبع أي جماعة، قال ما استنتجت منه جهله التام بالسياسة وأفكارها وتياراتها، وقد انتخب السلفيين لأنهم الأشد التزاماً بالدين ولديهم استقامة وأمانة لا تتوفر في الإخوان المسلمين، وهو مستعد لما سيفرضونه من قيود. . لم أجد لدي ما أقوله له، لكن يتأكد لدي باستمرار أن عموم الشعب المصري يريد حياة كريمة ليست الحرية ضمن عناصرها، لهذا ذهب إلى التيارات الدينية دون خشية مما سيفرضونه عليه من قيود، فالحرية لا تُفرض على من لا يريدها، ولكن يحصل عليها الساعون إليها والمستعدون لدفع ثمنها، ولا يمكن لقلة مثقفة مستنيرة أن تفرض على الجماهير أجندتها الخاصة بالحرية، لأن هذا فوق أنه مستحيل مضاد أيضاً لمبدأ الحرية ذاتها، لذا من الظلم لوم النخبة العلمانية والليبرالية على ما نتصوره تقصيرها في التواصل مع الجماهير، فبضاعتهم لا تجد من يشتريها في السوق المصري، بعكس التهافت والتقديس لرموز الجهالة والكراهية. . ربما التجربة وحدها هي الوسيلة التي ستحول الجماهير من الانبهار والخنوع لتجار الدين، للبحث عن العلم والعلماء، الذين سيأتون ومعهم الحرية والإنسانية.
ليس أمامنا الآن غير الانتظار، ليبدأ الظلاميون في تحقيق ما وعدوا الناس به من خير وبركة تجلبها التقوى التي يدعونها، ورغم أن التجارب السابقة لأمثال هؤلاء في كل أنحاء العالم كانت وبيلة، إلا أن من حق الشعب المصري التجربة بنفسه، مادام غير قادر على التعلم من تجارب غيره من الشعوب، وإن كان تعلم الشعب المصري حتى من تجاربه الشخصية أمراً مشكوكاً فيه، فلقد جربنا ديكتاتورية عبد الناصر ولم نتعلم منها، بل بيننا من يتسمون ناصريين، ويريدون العودة بنا إلى سنواتها الكارثية، وجربنا معه كما جرب العالم كله فشل الاشتراكية، وفي حين تراجع العالم كله عنها، مازال أشاوس الاشتراكية المصريون ينعقون بمقولاتها، ومصممين على وصم كل من يحاول إخراج البلاد من وهدتها وانغلاقها باللصوصية والعمالة وما شابه من شتائم ولعنات!!
تتحول مصر إذن بشرعية ديموقراطية لتصير مصرستان، وربما كان هذا هو أقصر الطرق لتطهير البلاد من الظلامية، بعد أن تصل بنا لنهاية الطريق، فما يعرف بالخيار الجزائري الذي منع فيه العسكر سقوط الجزائر بين براثن الإرهابيين لم يؤد لاستئصالهم، وينتظر أن يحكموا البلاد في أقرب فرصة. . مرحباً إذن بالطريق إلى مصرستان، إذا لم يكن أمامنا بد من السير فيه في طريقنا نحو حداثة العصر!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]