quot;لأن الشئ في حد ذاته ليس شاذا، أو غير سوي.. فأي شئ غير عادي سوف يظهر عندما أراه أنا بنفسي.. ومن ثم فالشذوذ لا يتعلق بالشئ نفسه، بل يتعلق بي أناquot; (كو - لو: نقوش الجبال والبحار)

قرأت هذه الشذرة الفلسفية في أحد الأعداد الاستثنائية لمجلة quot;ديوجينquot;، وكانت تتصدر دراسة مهمة لأستاذ جغرافيا ياباني (لا أذكر اسمه الآن). فقد طرحت اليونسكو عام 1996 سؤالا بسيطا وصعبا في نفس الوقت، علي مجموعة من المثقفين في العالم هو: quot; من نحن؟ quot;.. وكانت صياغة السؤال دقيقة للغاية منعا للخلط المحتمل بين: quot;من نكونquot; وquot;ماذا نكون؟quot;.
في سياق توضيح (الفروق أو الحدود الفاصلة) بين هذين السؤالين الفلسفيين، يقول quot;جين دورميسونquot;، رئيس تحرير مجلة (ديوجين) في افتتاحيته المعنونة: quot; إجابة غير نهائية علي أسئلة يصعب الإجابة عنهاquot; (العدد - 117): نحن كائنات بشرية في الكون، من لحم وعظم ودم، ومن مجموعة مختلطة من الخلايا العصبية والجزيئات، ومن الذكريات والمعتقدات والآمال، لكن السؤال هو: ما الذي يعنيه الزمن والتاريخ لهذه الكتلة الصغيرة من المادة والأسرار؟ وما هي الصورة التي تمدنا بها عن الآخرين، وعن quot;الذاتquot;؟.. ماذا تعني كلمة quot;الآخرquot; وكلمة quot;الذاتquot;؟.. وما هو quot; الكوني quot; في كل منا؟.
كانت دراسة أستاذ الجغرافيا الياباني في هذا العدد، والمعنونة: quot;خريطة للعالم ترتكز علي الذاتquot; بمثابة التأصيل المعرفي لشذرة quot;كو ndash; لوquot; في كتابه quot;نقوش الجبال والبحارquot;، والخيط الذي يلضم حبات اللؤلؤ من دراسات هذا العدد، يقول: quot;كان العالم في التصور أو المفهوم الياباني حتي منتصف القرن التاسع عشر، يختلف تماما عن العالم في المفهوم الأوروبي، رغم انه يشير في النهاية الي العالم الطبيعي الحقيقي نفسه، فمفاهيمنا وتصوراتنا عن العالم شخصية وغير موضوعية، وبقدر ما يجب ان يكون لكل خريطة وجهة نظر، وتشكلها بالضرورة quot;الأناquot; أو مجموعة من quot;الأناquot;، فليس من المدهش ان يجد الناس ان من الصعب ألا يشكلوا ويستخدموا خرائط ترتكز علي الذاتquot;.
quot; ان الخرائط التي ترتكز علي الذات، ليست واقعا ماديا بل تصورات تشكل في التحليل النهائي أساس إدراكنا الثقافي الاجتماعي (الذي يتضمن ميلنا الي التمييز بيننا وبين الأجانب) الذي نقيم عليه مفاهيمنا للعالم والشعوب، فصورتنا عن العالم الخارجي تتكون اساسا من شكل العالم والشعوب التي تعيش هناكquot;
لكن، ماذا يعني وجود خريطة للعالم ترتكز علي الذات؟
الفكرة الأصلية لخريطة العالم التي ترتكز علي الذات هي انعكاس لتفكيرنا في وجود الكائنات البشرية علي انه وجود ايجابي، وذلك بوضع الشعوب الوهمية كوجود سلبي في الهوامش، وهذا يدعم الشعور بالتفوق البشري. والشعور بالتفوق (الاستعلاء) ينعكس في تسمية هذه الشعوب.
ومن العسير علينا ndash; كما يقول - ان يكون لدينا شعور بالوحدة بدون التثبت من وجود الكائنات الأخري، أو بمعني آخر غير المثقفين، أو البرابرة أو الظل أو الظلام أو الأجنبي. فنحن في حاجة الي قيمتين متساويتين في الأهمية: فالكائنات البشرية توحد مركزا، وتضع نفسها هناك بإبعاد ما يكون علي الحواشي والأطراف، ذلك لأنه بدون المحيط أو الأطراف يفقد المركز علة وجوده.
quot;الخريطة التي تركز علي الذات، ضرورية لنا لنري العلاقة بين مركزنا وبين بقية العالم. ان الخرائط والصور الذاتية، كما تتصورها الإيديولوجيات التي تهتم بالوجود البشري، هي التي نبحث عنها، والوجود الحقيقي للكائنات السلبية علي (الهامش) أو المحيط تقوي وجودنا ككائنات ايجابية.
الهوامش لا توجد في السياق الجغرافي فقط بل أيضا في السياق الاجتماعي، ويمكن ان نقول ان السياق الأول قد حل محله (الكون) حيث تبحث البشرية الآن عن هوامش أو محيطات جديدة، أما الهوامش في السياق الثاني فإننا نبحث عنها فيما بيننا، والكائنات البشرية لا يمكن ان تعيش دون ان يكون هناك من هم بعيدون عن المركز، فنحن ذاتيون بطبيعتنا.quot;.
هذه المعضلة (الفلسفية ndash; الجغرافية quot; عالجها من منظور جديد كتاب quot; كانط راهنا، أو الإنسان في حدود مجرّد العقل quot; للدكتورة quot; أمّ الزّين بنشيخة المسكيني quot; التي رأت: أن أسئلة الفلسفة اليوم، في عصر العولمة ودمج الزمان والمكان، هي quot; أسئلة الحدود quot;، أي الأسئلة التي تضع الإنسان في (مجرد حدود العقل) بالمعني الكانطي. ولمّا كان الفنّ الّذي يسطّر الحدود ويرسم الخرائط يسمّى quot;الجغرافياquot;، أضحت quot;أسئلة الحدودquot; في جوهرها أسئلة جغرافيّة.
الجغرافيا هي التي أوحت لنا برسم خارطة لقدرات العقل وصلاحياته، وقد تنبه quot; إمانويل كانط quot; منذ نهاية القرن الثامن عشر إلي الوشائج بين الجغرافيا والفلسفة وتساءل: إلى أيّ حدّ تمتدّ هذه الصّلاحيات والقدرات؟ هل تتقيّد حدود العقل بحدود الفلسفة أم تتجاوزها إلى هوامشها كما قال (جاك دريدا)، راسمة بذلك التّجاوز خرائط أخرى بين الفلسفي وما هو غير فلسفيّ؟ هل يتنزّل هذا العقل في جغرافيّا أخرى وفضاء آخر هو الفضاء العمومي حسب تعبير (يورجن هابرماس) والحس المشترك.
ان الحدود الّتي يتنزّل فيها هذا quot;الإنسان المعاصرquot;، كما تقول، هي حدود استعمالات العقل. وهي استعمالات تمثّل مشروع كانط النّقديّ برمّته. وقد صاغها في الأسئلة الثّلاثة الشّهيرة الّتي طرحها في كتابه quot;نقد العقل المحضquot; quot; ماذا يمكنني أن أعرف؟.. ماذا يجب عليّ أن آمل؟.. ماذا يمكنني أن آمل؟ quot;.. وبدون الإجابة عن أسئلة المعرفة لن نعرف حقيقة وجودنا أو: quot;من نكون؟quot;.
[email protected]