هناك تشابه كبير وارتباط عميق، بين نظام المطبوعات والنشر العثماني وبين النظام الأردني ، فيما لو علمنا الصلة التاريخية الحميمية بين العهد العثماني ونظامه وبين النظام الأردني الحالي. وأن الأردن الحالي، كان ضمن quot;ولاية دمشقquot; العثمانية في بلاد الشام، طيلة أكثر من 400 سنة. حيث كانت بلاد الشام مقسمة الى ثلاث ولايات: دمشق، وحلب، وبيروت. وأن حال نظام المطبوعات والنشر الأردني الجديد معروف لدى الجميع، من خلال اعتصامات واحتجاجات الصحفيين الأردنيين الأحرار الآن، ومن خلال المصادرات الكثيرة للكتب المنشورة داخل الأردن وخارجه، ومحاكمة الشعراء، والتعليمات السرية للصحف، وفرض الرقابة الرسمية والذاتية على كل ما ينشر.
ولكن ما حال quot;المكتوبجيquot; ( وهو بمثابة الرقيب على كل ما يُنشر) العثماني، الشبيه بــ quot;المكتوبجيquot; الأردني اليوم ؟

ظهور الصحافة في بلاد الشام
تعتبر الصحافة من أسرع نتاجات ثقافة بلاد الشام في القرن التاسع عشر ظهوراً، مُمثلةً بأول صحيفة صدرت في بلاد الشام، في بيروت وهي quot;مرآة الأحوالquot; 1855 التي أسسها رزق الله حسون الحلبي (1825-1889)، ثم تبعتها صحيفة quot;حديقة الأخبارquot;، وجريدة quot; نفير سورياquot; في بيروت. وكانت كافة الصحف التي صدرت في بلاد الشام حتى العام 1874 صحفاً يصدرها مسيحيون ما عدا صحيفة quot;حبا سيليتquot; اليهودية، التي كانت تصدر في القدس في 1870، وكذلك صحيفة quot;البصلةquot; التي أصدرها التلموديون في العام نفسه. وكانت أول صحيفة يصدرها صحافي مسلم في بلاد الشام في العام 1875 هي صحيفة quot;ثمرات الفنونquot; لصاحبها عبد القادر القباني.

قوانين ما زالت قائمة وفاعلة
وكانت الحرية للصحافة الناشئة في بداية منتصف القرن التاسع عشر متوفرة، في حدود الرقابة الذاتية، التي لا تسمح بالتعرض للباب العالي، وكان الباب العالي في ذلك الوقت واحداً في الآستانة/اسطنبول، فأصبحوا بعد 1918 أربع quot;أبواب عاليةquot;، في سوريا، والأردن، ولبنان، وفلسطين! وكان الباب العالي وولاته في بيروت، حيث صدرت أولى الصحف في تاريخ الإمبراطورية العثمانية غير ملتفتين أو مكترثين كثيراً الى تقييد حرية الصحافة، لضيق دائرة تأثيرها، وهي الوليدة الجديدة ذات التحرير الهزيل، والتوزيع المحدود، والعدد القليل. ولكن، عندما زاد عدد الصحف، واتسع توزيعها، وكبُر تأثيرها، وازداد قراؤهـا، وتولى تحريرهـا مثقفون مرموقون كالمعلم بطرس البستاني، وابنه سليم البستاني، وأحمد فارس الشدياق، وغيرهم، التفت الباب العالي الى خطورة الصحافة على مصالحه السياسية والمالية، فقيّد الصحافة وأصدر قوانين المطبوعات. وكانت أبرز مواد قانون المطبوعات المُقيِّد لحرية الصحافة، الذي صدر في 1/1/1865 ثلاث مواد أوردها يوسف خوري، في كتابه (مختارات من القوانين العثمانية)، الصادر عن دار الحمراء، بيروت، 1990، وهي الشبيهة الآن بقوانين المطبوعات والنشر في كل ما كان يُعرف ببلاد الشام، وكأنك quot;يا أبو زيد ما غزيتquot;:
- المادة 15: صاحب الغازته (الصحيفة) الذي يستعمل ألفاظاً، أو عبارات غير لائقة بحق السلطنة العلية، أو خاندان شوكة الحضرة السلطانية، أو يتعرض لمضادة حكومة الحضرة السلطانية السنية، يُحبس من ستة شهور إلى ثلاث سنوات، أو يؤخذ منه من 25 ذهباً الى 150 جزاءً نقدياً.
- المادة 16: إذا وُجد من يكتب كلاماً يمس وكلاء السلطنة السنية، أو رؤساء الممالك الممتازة، إما يُحبس من شهر الى سنة، أو يؤخذ منه 5 ذهبات الى 50 ذهباً الى 100 ذهب جزاءً نقدياً.
- المادة 17: الذين يستعملون ألفاظاً أو تعبيرات تمس أولي الأحكام المحبين للدولة العلية والمتفقين معها يُحبسون من ثلاثة شهور الى ثلاث سنوات، أو يُؤخذ منهم 15 ذهباً الى 100 ذهب جزاءً نقدياً (ص 181) .

معركة الصحافة مع quot;المكتوبجيquot;!
وبدأت معركة الصحافة مع الرقابة منذ ذلك الحين في الربع الثالث من القرن التاسع، وحتى هذا اليوم. وفي الأصل، لا علاقة للمكتوبجي بالصحافة ، فالمكتوبجي في عُرف الإدارة العثمانية كان سكرتير الوالي، وفي كل ولاية كان هناك quot;مكتوبجيquot;، إلا أن الباب العالي، اختار صدفة مكتوبجي ولاية بيروت، لمراقبة الصحف حيث كانت صحف بيروت، أول صحف ظهرت في تاريخ الإمبراطورية العثمانية كلها بتأثير من الصحافة الأوروبية، والارساليات الأجنبية، فأصبحت وظيفته رقابة الصحافة أكثر من سكرتيرية الولاية، والتصق مُسمَّى هذه الوظيفة برقابة الصحف منذ ذلك الحين. وكان أول مكتوبجي في هذه الوظيفة عبد الله نجيب. وكان المكتوبجي كخليل خوري مثلاً، الذي عُيِّنَ في العام 1877 مديراً لمطبوعات سوريا، يكتب للصحف التي تحاول التعرُّض للباب العالي وولاته، محذراً ومنذراً كما يلي:

quot;إلى صاحب امتياز جريدة...
من حيث أن جريدتكم قد نشرت في عدد... مقالة مخالفة للرضى العالي، فقد أوجبت (تخديش الأذهان)، فاقتضى إخطاركم، أنكم اذا عدتم الى مثل ذلك، تجري بحقكم المعاملات القانونية.quot;
فكانت رقابة السلطة العثمانية على الصحافة، وتقييد حريتها ممثلة بـ quot;المكتوبجيquot;، وهو رقيب الصحافة. وكانت هذه الرقابة تُغلق الكثير من الصحف، وتوقفها إلى أجل محدود أو غير محدود، لأسباب تافهة كثيرة منها:
- عدم توصيـف الصحــف لشقيقات، وبنات السلطــان، وزوجاتــه بلقب quot;سلطانـةquot;، والاشارة إليهن بلقب quot;خاتونquot;، مما اضطر المكتوبجي الى تعطيل جريدة quot;المصباحquot; لصاحبها نقولا النقاش، مدة شهرين بسبب ذلك في العام 1881. وقال المكتوبجي في خطاب التعطيل:
quot;من المعلوم لدى الجميع، أن الصفات الرسمية، والألقاب المعروفة الممتازة المستعملة، في ذكر وتوصيف حضرات ذوي السلطنة السنية كرائم وشقيقات حضرة السلاطين العظام، انما هي لقب quot;سلطانةquot;. وبما أنكم استعملتم لها تعبير quot;خاتونquot; الجاري بحق آحاد النساء، صدر عن الأمر العالي، من طرف الولاية الجليلة بتعطيل غازيتكم (صحيفتكم) المذكورة.
- نشر مقالات ومواد quot;عديمة المناسبةquot; وجد استمرارها على مسلكها القديم أمراً لا خير فيه. ومثل هذه المقالات كانت سبباً في تعطيل جريدة quot;لسان الحالquot; لصاحبها سليم سركيس، وجريدة quot;الجنةquot; لصاحبها سليم البستاني.
وكانت هناك أسباب تافهة أخرى، سنذكرها في مقالنا القادم.
فما أشبه اليوم بالبارحة، وquot;كأنك يا ابو زيد ما غزتquot;. وكأن الباب العالي العثماني ما زال يحكمنا حتى الآن. بل أصبح يحكمنا الآن ndash; ويا للهول - أربع أبواب عالية في سوريا، والأردن، ولبنان، وفلسطين، بدلاً من باب عالٍ واحد، كان يحكمنا من الآستانة/اسطنبول.

السلام عليكم.