مبكراً، وفي أوائل عام 2004 عبر مسؤول كردي كبير عن ندم الجبهة الكردستانية على تحالفها الاضطراري مع الأحزاب الدينية الشيعية المدعومة من إيران، ، ليس في فترة ما بعد سقوط نظام صدام فقط، بل قبل ذلك بكثير، ربما قبل مؤتمر فينا الذي كان أحمد الجلبي واجهته الظاهرية العابرة.
فقد اعترف ذلك المسؤول، يومها، بأن عجز القوى السياسية العراقية عن إسقاط نظام صدام حسين بقواها الذاتية وحدها، أجبر المعارضة الكوردية على الانخرط في تحالف مصلحي مرحلي مرهق ومتعب مع جماعات دينية طائفية أصولية تعمل بوصاية إيرانية وسورية كاملة، ولا تتفق مع قيم ومبادي أحزاب كردية ديمقراطية منضوية تحت خيمة التحالف الكردستاني.
ولأن المجالس بالأمانات فليس من حقي أن أبوح باسم ذلك المسؤول ولا بمركزه السابق ولا اللاحق في العراق الجديد.
ولتبرير ذلك التحالف سألني ذلك المسؤول، هل تستطيع أن تدلني على بديل ديمقراطي علماني عربي عراقي يمكن الوثوق به والركون إليه؟
ومع الاعتراف بأن في كلامه الكثير من الصدق والواقعية المحزنة، مع الأسف الشديد، إلا أن ذلك لا يشكل المبرر الكافي لتحالف غير محدود وغير مقنن وغير مشروط مع قوى لم يُعرف عنها الحفاظ ُ على العهود ولا الالتزام ُ بالمواثيق.
ولأن ذلك التحالف كان عشوائيا وبدون آليات عملية محددة تضبط قواعده وتضمن ديمومته وتحميه من الإنحراف والاستغلال فلم يكن مُستغربا ولا مُستبعدا أن يصيب الغرور والطمع وهوس القوة والجبروت أحد َ المتحالفين، بعد أن يمتلك السلطة، فيسعى لكسر قواعد اللعبة وتسميم روح الشراكة، والاستفراد بالقرار.
وليست المناوشات الحامية المتتابعة المتصاعدة بين رئيس الوزراء نوري المالكي ومحازبيه نواب حزب الدعوة ودولة القانون، من جهة، وبين قيادة إقليم كردستان وحلفائها، من جهة أخرى، سوى دليل صارخ على وصول ذلك التحالف إلى نهايته المتوقعة، وتأكيدٍ واضح لوجود مأزق خطير وحقيقي يصعب التستر عليه وتهوينه وتبسيط انعاكاساته الخطيرة على مصير العملية السياسية برمتها، عما قريب.
وإذا تجاوزنا مسائل المناطق المُختـَـلَف عليها، ودققنا في القضية الأخطر والأعمق، والمتمثلة في زحف نفوذ رئيس الوزراء المبرمج والمنظم على القوات المسلحة وقوى الأمن والمخابرات والبنك المركزي والقضاء الأعلى، وغيرها، لأدركنا مدى جدية الهوة التي بدت لبعضنا صغيرة في بدايتها، وهي كبيرة وأخطر مما ظنه أصحاب النوايا الحسنة، وهم كثيرون.
فقد خرج الصراع من إطار المماحكات العابرة المعتادة، والمشاحنات السابقة على وزارة أو على سفارة، ليصبح افتراقا مصيريا حاسما بين ديكتاتورية عائدة بثياب جديدة، وبين قوى ترفض هذه الديكتاتورية المقنعة، من أساسها، وتعلن استعدادها للتصدي لها والدفاع عن مصالح شعبها إلى آخر نفس.
إبراهيم الزبيدي |
إن الصراع اليوم أصبح يمس جوهر الديمقراطية، ويطال عصب الحرية التي قاتل الشعب العراقي من أجلها طويلا وسقاها بدم غزير.
أيهما على حق، هل هو صاحبُ نظرية الحكومة المركزية القوية التي تفرض هيبتها وسلطانها على كردستان، وعلى جميع المحافظات الأخرى، كما كان الحال في عهود الحكومات الديكتاتورية السابقة، قبل ضمان ديمقراطيتها وعدالتها وهويتها الوطنية الخالصة، أم هم أصحاب نظرية السلطة المركزية المختلطة التي تتقاسمها الأحزاب والكتل المتحاصصة، وفق الصيغة التي أخذت من أعمار أهلنا عشر سنوات، بحكومات فاسدة مشلولة عطلت البناء وأشاعت الفساد والفوضى، في جميع مفاصل الدولة، وعادت بالوطن وأهله عشرات السنين إلى وراء.؟
فلا بحكومة المالكي المركزية القوية المزعومة، ولا بحكومة المحاصصة التي ما زال القادة الكرد وحلفاؤهم في القائمة العراقية يجرون وراء سرابها، يكون الحل.
ورغم أن المظهر الخارجي لهذه المناوشات السياسية المقلقة هو الحوار الكلامي حول أفكار ومباديء وقناعات إلا أن جوهرها الحقيقي طموح المالكي إلى طرد شركائه التقليديين الأوائل، تحت شعار حكومة (أغلبية)، في ظاهرها، وفي باطنها أحادية اللون والقرار، يهيمن عليها هو وحده، ويعاونه فيها وزراء من حزبه، مع إضافة بعض شيوخ عشائر يوافقون على تنصيبه رئيسا أوحد وبلا شريك ولا منازع.
ومن الطبيعي ألا يقف الكرد وحلفاؤهم، وحدهم، ومنهم أطراف من الائتلاف الشيعي نفسه، ضد هذه السياسة المريبة، بل إن المتوجب على جميع القوى والتجمعات والمنظمات السياسية والمدنية أن تنهض لتشكل جدارا مانعا بوجه هذه الهجمة الديكتاتورية الناشئة، خاصة بعد أن تحولت إلى خطوات عملية تسليحية هجومية يعلن المالكي نفسُه أنها لمحاربة الإرهاب في الجبال والصحارى.
من هنا يبدأ المأزق الحقيقي ليس لذلك التحالف الهش بين القيادة الكردية والأئتلاف الشيعي الذي اختزله المالكي بحزبه وحده وبعض مؤيديه ومشايعيه، بل هو مأزق العراق كله، ومأزق العراقيين أجمعين.
ومن حق الجميع أن يتخوف من صفقة المالكي الروسية، ليس لما تضمنته من أسلحة، بل لأنها تعتبر خطوة متقدمة على طريق إصراره على تقوية جبهته وتكريس هيمنته الأحادية على القرار الوطني، واستهانته بشركائه الآخرين، وتهميشهم إلى أبد الحدود الممكنة .
وليس غريبا أن يتذرع المالكي بعشرات الحجج لإبقاء الوزارات الأمنية خالية من وزراء فاعلين، بدعوى أن الكتل لم ترشح لها شخصيات كفوءة. والهدف أوضح مما يحتمل، وهو أن تبقى هذه الوزارات في قبضته وحده يُسيرها هو من خلال وزراء بالوكالة، من أعوانه ومحازبيه. ليس هذا وحسب، بل إن بعض معاونيه يذهب إلى أبعد من ذلك، فيبشر برغبة رئيس الوزراء بحل البرلمان لأنه، حسب رأيه، يعطل القرارات. فهل من منازع؟
السؤال المهم في ختام هذه المجادلة العقيمة إلى متى سيظل قادة كردستان وحلفاؤهم متعلقين بأمل أن يعود المالكي طوعا إلى سكة السلامة، ويكف عن مسيرته الحثيثة نحو ترسيخ سلطة الرجل الواحد، والتي تتسارع وتتصاعد يوما بعد يوم؟
أما آن الأوان يا سادة أن تستديروا نحو ملايين العراقيين التقدميين الديمقراطيين الطامحين إلى نفض غبار المحاصصة الطائفية البغيضة، بعد أن ثبت عقمها واستحال معها بناء دولة عراقية ديمقراطية حقيقية تحمي حقوق الجميع، دون هيمنة أحد على أحد، ودون دسائس ومؤامرات ظاهرُها حق وباطنها باطل وضلال؟.
وإذا كان ذلك المسؤول الكردي، بالأمس، وفي أوائل العام 2004 ، قد شكى من عدم وجود حزب أو تنظيم أو تيار ديمقراطي حقيقي يمكن الركون إليه، فواقع العراق اليوم، في عشر سنوات ٍ من التمزق والتشرذم والاحتراب، جعل الملايين من العراقيين، من جميع الطوائف والقوميات والأديان والمناطق، أكثرَ قناعة بأن هذا الوطن لا يمكن أن يُحكم بطائفة واحدة أو بحزب واحد أو عقيدة واحدة، وأكثرَ تعلقا بأمل ولادة الجبهة الوطنية الديمقراطية الموحدة التي تأخذ على عاتقها إطلاق عميلة تغيير شاملة تبدأ من الجذور. إنها هناك في انتظار من يأخذ بيدها ويضعها على الطريق. فمن يعلق الجرس؟
التعليقات