بين الفينة والأخرى وعلى مر التاريخ وخصوصا فى الأزمات المذهبية تبرز دعوات للحوار بين المذاهب الإسلامية، آخرها دعوة نبيلة للعاهل السعودى لتأسيس مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية فى انفتاح هادف وفى مرحلة هامة ترتفع فيها أصوات الطائفية البغيضة فى المنطقة كلها وحاجتنا الماسة للحوار البناء.

ولاشك إن أصلها ينطلق من القرآن الكريم الداعى للوحدة الإسلامية فقد قال الله تعالى (وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (ولاتنازعوا فتفشلواوتذهب ريحكم) (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) (وَأَطِيعُوا اللَّه وَرَسُوله وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَب رِيحكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّه مَعَ الصَّابِرِينَ). وأحاديث كثيرة جدا أمر بها النبى (المسلم أخو المسلم لايظلمه ولا يسلمه) وكذلك وصيته قبل وفاته (لاترجعوا من بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض). وقال الإمام على (وخير الناس فى حالا النمط الأوسط فالزموه والزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة) وهى تأكيد على الوحدة والجماعة والسواد الأعظم وتحذير من الفرقة.إنها دعوة العقل السليم فالوحدة قوة والتفرق ضعف ولكن بشرطها وشروطها حتى يتسنى لها النجاح.

ولقد كانت هناك دعوات تاريخية عديدة قادها ساسة عظام مثل الخليفة الأموى المعروف بالقسط والزهد والعدل عمر بن عبد العزيز، ثم عبد الله المأمون فى العصر العباسى الذهبى وهو يقود الحوار بين المذاهب المختلفة وآرائها المتنوعة. ثم (دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية) مطلع الستينات بالقاهرة وسكرتيرها محمد محمد المدنى وبمشاركة روّاد كشيوخ الأزهر محمد عبده ومحمود شلتوت وعبد المجيد سليم، وشيعة عرب أمثال محسن الأمين ومحمد جواد مغنية ومحمد حسين كاشف الغطاء وغيرهم أمثال جمال الدين الأفغانى وغيره ليصدروا مجلة (رسالة الإسلام) حيث كان الجو أخويا من مصلحين عاشوا همّ الأمة وعرفوا أن قوتها فى اتحادها وضعفها فى تفرقها وقد جمعتهم القبلة والصلاة والتوحيد والنبوة والمعاد وأركان الإسلام.

كان شعارهم راية التوحيد ثم توحيد الكلمة وفق مبادئ القرآن الكريم والسنة الصحيحة رافضين التعصب الذميم والبدع والشرك وتحريم دم المسلم وماله وعرضه وإزاحة ما علق فى التراث من عصبية وجهل وتكفير.

نبيل الحيدري

وتأكيدا على ضرورة مشروع التقريب وأسبابه، جاء فى بيان تأسيسها (إن الشعوب الإسلامية تفوق بتعدادها المليار نسمة موزعة فى كل أنحاء الأرض ومنتشرة فى مختلف القارات الخمس والمسلمون يعيشون فى أكثر من أربعين دولة مشكلين ثلث العالم أرضا وسكانا تقريبا. تمتلك الشعوب الإسلامية القدرات والطاقات المادية والمعنوية ومع هذا هم أضعف خلق الله وأكثرهم تخلفا..). يقول محمود شلتوت فى سيرة التقريب (كنت أودّ لو أستطيع أن أصور فكرة الحرية المذهبية الصحيحة المستقيمة على نهج الإسلام والتى كان عليها الأئمة الأعلام فى تاريخنا الفقهى، أولئك الذين يترفعون عن العصبية الضيقة ويربؤون بدين الله وشريعته عن الجمود والخمول فلا يزعم أحدهم أنه أتى بالحق الذى لامرية فيه... وقد تهيأ لى وعهد إلى منصب مشيخة الأزهر أن أصدرت فتواى فى جواز التعبد على المذاهب الإسلامية الثابتة الأصول المعروفة المصادر..). لاشك أن المسلمين اليوم دخلوا جميع قارات العالم وتغيرت الظروف عن الستينات بل وازدادت الحاجة أكثر إلى التقريب والحوار الصادق بين المذاهب الإسلامية أمام المحن والمآسى التى تعانيها الأمة لاسيما ونحن نرى الأمة السورية تذبح يوميا بالبابات والمدافع وغيرها.

توقفت جماعة التقريب عن عملها فى أوائل السبعينات كما توقفت مجلة (رسالة الإسلام) عن الصدور تماما لعوامل كثيرة منها عدم تحقق الشرائط الموضوعية للحوار الصادق فى رؤية سليمة وفق منهجية سليمة وآليات صحيحة.

كذلك كانت هنالك مبادرات تاريخية أخرى مثل مبادرة الملك نادر شاه لعقد مؤتمر عام يجمع فيه أبرز العلماء الشيعة والسنة من أجل الوحدة الإسلامية وإقامة مؤتمر ضخم حقيقى لهدف التقريب بين الطائفتين. وفى11 كانون الأول عام 1743 م بعث الوالى أحمد باشا علامة العراق عبد الله السويدى للمشاركة وحضور70 عالما شيعيا، وسبعة علماء سنة من تركستان وسبعة من أفغانستان، وحضور لأكبر فقهاء شيعة العراق آنذاك نصر الله الحائرى من كربلاء الذى دخل على نادر شاه. رحب الشاه بالحائرى وقال له أنه يريد التقارب وتحريم التكفير للخلفاء الراشدين وإزالة بدع شاه الدولة الصفوية اسماعيل الصفوى. ثم خرج الحائرى إلى خيمة فقيه الإيرانيين على أكبر الملا باشى وتحاورا طويلا ثم حصل اجتماع كبير بين علماء الفريقين السنة والشيعة وكتبوا محضرا موقعا من الجميع وفيه كبار علماء المسلمين من العراق وإيران وأفغانستان وتركستان، من العرب والترك والفرس والأفغان، وعلى رأسهم فقيه العراق الشيعى آنذاك نصر الله الحائرى ومفتى العراق السنى عبد الله السويدى ومفتى الأفغان حمزة القلنجارى ومفتى إيران على أكبر الملا باشى ليوقعوا إتفاقا وحدويا عظيما يعالج المشاكل الأصلية والأساسية فى الخلاف فى احترام الخلفاء الراشدين ومنزلتهم وعدم الطعن فيهم، وأيضا اعتبار المذهب الجعفرى مذهبا إسلاميا خامسا إضافة للمذاهب السنية الشرعية المعروفة الأربعة المالكى والحنفى والحنبلى والشافعى ونقاط أخرى. طبعا كان صوت التعصب فى إيران أعلى من أصوات الوحدة والتقارب مما أسقطه فى السنة القابلة.

وكما حصل فى قمة مكة التاريخية في العام 2005 بالمساواة بين المذاهب الإسلامية الثمانية: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والزيدية والجعفرية والاباظية والظاهرية. وهى خطوة رائعة فى هذا القرن وتحتاج إلى خطوات لإكمال المشوار ومتابعته بآليات عملية.

فلابد إذن من الشرائط الموضوعية لنجاح الحوار ومن أهمها اعتبار القرآن والسنة هما المحوران الأساسيان للوحدة.
كما أوصى الإمام على آخر حياته وقبيل شهادته بالقرآن والسنة قائلا صريحا (وصيتى لكم أن لا تشركوا بالله شيئا ومحمد فلا تضيّعوا سنته. أقيموا هذين العمودين وأوقدوا هذين المصباحين). وما أوضحها وأصرحها فالمصدران اللذان أوصى بهما هما الكتاب الكريم والسنة الشريفة ولا شئ آخر وأن يتم رفض السباب واللعن للخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين أزواج النبى والرموز الإسلامية
ولقد اشتركتُ فى الكثير من مؤتمرات الوحدة والتقريب بين المذاهب لذلك أرى من الضرورى وضع النقاط على الحروف فى شروط موضوعية لإنجاح الحوارات الهادئة والهادفة ومن أهمها اعتبار القرآن والسنة هما المحوران الأساسيان للوحدة.

وكذلك من الشروط الموضوعية هو أن يحسن اختيار رجالات الحوار المناسبين والمؤهلين والواعين لذلك وتلك مهمة كبيرة وليست يسيرة فإنما يراد بالحوار الصادق أهدافا نبيلة سامية لا مجرد شعارات يستغلها البعض هنا أو هناك دون ثمرات ملموسة فلابد أن يكونوا واعين وعلى بصيرة ووضوح الرؤى (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى). هذه الأمة التى أراد الله لها أن تكون خير أمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) والإستجابة لما يحييهم (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). فكيف تحيى هذه الأمة وتعالج أزماتها المتراكمة بدون الحوار الهادئ والهادف فى برامج عملية لرواد مصلحين وضعوا أياديهم على الداء لعلاجه