يعاني العراق اليوم من أزمات جوهرية أنتجها نظامه السياسي التوافقي الهش الذي تتعدد فيه مراكز القوة والقرار والنفوذ الخارجي، وليس هناك من محاولات جادة لفك شفرة الأزمات سوى تصريحات ومساع لم تثمر بعد ومنها اللقاءات المكوكية التي يجريها الرئيس الطالباني على أمل حلحلة الأزمة ووضع سيناريوهات مقبولة تضمن ولو الحد الأدنى من الوحدة الوطنية التي هي اليوم مهددة أكثر من أي وقت مضى.
المتتبع لما تطرحه القوى السياسية العراقية كحلول للخروج من المأزق يتمحور الآن حول ثلاثة سيناريوهات:

الأول، حكومة الأغلبية السياسية، هو سيناريو فيه مغالطة نظرية وغير ممكن عملياً وفق اشتراطات النظام السياسي الحالي، كيف؟ لأنه وببساطة حل لا ينسجم مع طبيعة النظام التوافقي العرقطائفي المعتمد، هو حل ينسجم مع طبيعة الديمقراطية التعددية التي تقوم على مبدأ الأغلبية السياسية المنتجة للحكم مع أقلية سياسية معارضة، في حين أنَّ طبيعة الديمقراطية التوافقية تقوم على مبدأ الشركة بين المكونات ولا تستثني أي من مكونات الدولة، فالحكم التوافقي حكم ائتلافي تشارك فيه قوى مجتمعيات الدولة، لذا فلا معارضة في الحكم التوافقي لأنه يعني استبعاد مكوّن أو أكثر من المشاركة في الحكم المصمم أساساً على أساس اشراك جميع المكونات في الحكم. إنَّ الأغلبيات والأقليات في ظل النظام التوافقي هي عرقية طائفية إثنية تدمج بين الهوية الفرعية والإعتراف السياسي السيادي بها، والإدارة السياسية للدولة التوافقية إدارة مشتركة، وأي استبعاد لقوى سياسية ممثلة لمكونها العرقطائفي يعني انهدام الشراكة وفقدان التوزان في الدولة.

حسين درويش العادلي

عراقياً، يمكن الذهاب الى تشكيل حكومة أغلبية، ولكن سينظر إليها أنها حكومة شيعية أي حكومة أغلبية طائفية وليست حكومة أغلبية سياسية، من هنا نرى تصريحات بعض الساسة بعدم قبلهم وسماحهم بانفراد مكوّن بحكم العراق، لأنَّ طبيعة النظام السياسي العراقي الحالي هي طبيعة توافقية تقوم على اشراك كافة المكونات بحكم الدولة.

الثاني، حل مجلس النواب واجراء انتخابات مبكرة، وهو سيناريو ممكن نظرياً ومشروط النجاح جزئيا،.. نعم، إذا انسد أفق الحياة السياسية واستحال حل الأزمة يمكن اللجوء عندها الى حل البرلمان لإعادة رسم الخارطة السياسية من خلال انتخابات جديدة تغير من خارطة القوى الفعلية،.. هذا ممكن نظرياً، ولكن عملياً هو غير منتج، فما دام النظام السياسي العراقي توافقياً فإنَّ إجراء الإنتخابات وبقاء قوى الدولة أو تغييرها بقوى أخرى لا يحل جوهر الأزمة، فالقوى الجديدة ستجد نفسها مقعدة على وفق خارطة النظام التوافقي العرقطائفي من جديد، فيجب ألاّ ننسى طبيعة الدولة التي نتكلم عنها في خضم إيجاد مخرج للحلول، فحل البرلمان واجراء انتخابات مع بقاء النظام التوافقي لن يحقق شيئا، وسنعيد إنتاج ذات الأزمات،.. وحتى لو تصورنا تحقيق اختراق ضمني أو بسيط في بنية النظام التوافقي من خلال بروز قوى وطنية مدنية تؤمن بوحدة الأمة والدولة على أمل تفكيك بنية النظام التوافقي شيئاً فشيئا.. حتى هذا الإحتمال يحتاج تحقيقه الى إجراءات أولية تضمن نجاحه ولو جزئياً، منها سن قانون للأحزاب وقانون آخر للإنتخابات وتشكيل جبهات وطنية عريضة قافزة على حدود الطوائف والأعراق.. وهي اجراءات غير متوافرة حالياً.

الثالث، تطبيق مبدأ الشراكة الحقيقية بين القوى السياسية، هذا ما تنادي به معظم قوى الدولة،.. وهو سيناريو شكلي للأزمة، ترقيعي للمشكلة، حل يبقي الواقع على ما هو عليه بانتظار الفرج!! حل تستفيد منه الإمبراطوريات الحزبية التي أنشأها النظام التوافقي، هو حل الإقطاعيات السياسية التي ابتعلت المكوّن المجتمعي والسلطة والدولة،.. هو حل يبقي على النظام التوافقي المستند الى حكم المكونات وشراكة القوى العرقطائفية مع محاولة ايجاد شراكة حقيقية بينها لإدارة الدولة، وهو ما أثبتت التجربة السياسية فشله منذ انهدام الدكتاتورية في 2003م وإلى يومنا هذا،.. فالذي حال دون تحقيق الشراكة الحقيقية هو ذاته سيحول دون تحقيقها الآن ومستقبلا،.. إنه النظام التوافقي الإفتراضي والمعقد الذي يحول دون انسجام أمة الدولة وتحقيق مشاركة فعالة بين قوى الدولة. أيضاً نفتقد عراقياً لبنى مجتمعية وسياسية واقتصادية مدنية متطورة قادرة على تلطيف سلبيات النظام السياسي التوافقي بما يحقق قدر معقول من انسيابية وسلمية الصراع على الدولة.

ليس في جعبة القوى السياسية العراقية اليوم من حلول غير هذه، وهي حلول أقل ما يقال عنها أنها عقيمة لا تنجب حلاً حاسماً لأزمات الدولة. لكن، يبقى الحل الرابع قائماً على أمل تبلور كتلة تاريخية عراقية قادرة على تبنيه وحمله، حل يكمن باجراء تغييرات جوهرية في بنية العملية السياسية بما يفضي الى إنتاج الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية الموحدة،.. وبخلاف ذلك فطوفان الصراعات الدموية والتقسيم والتشرذم هو القادم.

[email protected]