مرت قبل أيام ( 29 أكتوبر 1965 ) الذكرى السنوية السابعة والأربعون لإختطاف وإختفاء المناضل الوطني المغربي البارز وأحد الزعامات التاريخية في العالم الثالث وأحد قادة اليسار المغربي الذي قاد وتصدر مسيرة الصراع الوطني المغربي للتخلص والإنعتاق من الهيمنة الفرنسية الشهيد المهدي بنبركة الذي كان أصغر الزعماء السياسيين الموقعين على وثيقة الإستقلال عام 1947والمدرس الشخصي للملك المغربي الراحل الحسن الثاني ( 1929/1999) المهدي بنبركة الذي شكلت شخصيته وطريقته لإدارة الصراع الوطني المغربي في مرحلة حاسمة وتاريخية مدخلا لخلافات وإختلافات في الرؤى والمنطلقات والأهداف لدى العديد من المغاربة الذين يجمعون رغم ذلك على الدور الوطني البارز والمكانة التاريخية التي يمثلها ذلك المناضل الوطني في مسيرة الكفاح الشعبي الطويل للمغاربة، اليوم ومع ظروف المصالحة الوطنية وفتح صفحة جديدة في ملفات العمل الوطني تعود سيرة المهدي بنبركة للتداول في ظل النقاش المحتدم حول مصير جثة ذلك الزعيم الوطني التي إختفت ولم تظهر أبدا كما لم تكشف معلومات غاية في السرية عن ملف الإختطاف والإختفاء ومن ثم المصير رغم إشتراك العديد من الأجهزة الإستخبارية الدولية في ذلك الملف وخصوصا مخابرات الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل مرورا بالمخابرات المصرية والمغربية!! والتي جميعها تحجم عن الإدلاء بأية معلومات نهائية عن مآل ومصير جثة المهدي التي تضاربت الأنباء بين كونها مدفونة في الأراضي الفرنسية بعد ساعات من الإختطاف الذي أعقبه القتل تعذيبا بخنجر الجنرال المغربي الراحل محمد أوفقير ( 1920/1972 ) أو أنه مدفون في مقر سابق للإعتقال في المغرب، أو كون جثته قد تم إذابتها و تحللها في حوض الآسيد ( الماء القاطع ) كما يطلق عليه المغاربة في معتقل ( دار المقري ) الشهير في الرباط وفقا لرواية عنصر المخابرات المغربية السابق أحمد البخاري وهي رواية لم تدعمها أي أدلة ثبوتية أو رسمية، ولكن تبقى القضية الأساسية تتمحور حول إستفادة ومصلحة أطراف محلية ودولية عديدة في إختفاء المهدي بنبركة وإختطافه من قلب باريس ليدخل ذلك الملف في كواليس المخابرات الدولية وفي عز مرحلة الحرب الباردة التي أكلت الكثير والكثير جدا من المناضلين والمقاومين وحتى الأنظمة في العالم الثالث التي وقعت ضحية لعبة الأمم و الأجندات الخفية وحرب ترتيب المواقع و المعسكرات، الشيء المؤكد الآخر كانت الرغبة الملكية ممثلة في إرادة الملك المغربي الراحل الحسن الثاني في الوصول لتسوية سياسية مع المعارض الوطني الشرس المهدي بنبركة عبر تكليف السفير المغربي في باريس بالإتصال به وتهيئة سبل العودة للمغرب وإصدار العفو الملكي عن حكم سابق للإعدام صدر بحقه على خلفية إتهامات بمؤامرة سابقة دبرها الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ضد الملك، وكان كل شيء جاهز ومعد للتسوية قبل أن ينقلب الموقف ويختطف المهدي وتتصاعد الأزمة السياسية الداخلية في المغرب بعد صعود دور الجنرالات الذين تصدروا المشهد لحماية النظام فإذا بالنهاية التراجيدية الصاعقة تتمثل في تحول أولئك للخطر الأكبر على النظام وكما حصل في محاولتي إنقلاب قصر الصخيرات في تموز/ يوليو 1971 التي دبرها مدير ديوان الملك الجنرال محمد المذبوح وأدار فصولها الدموية الرهيبة العقيد محمد إعبابو قائد المدرسة العسكرية، وبمراقبة وعلم وإطلاع مسبق من وزير الداخلية ثم الدفاع السابق الجنرال محمد أوفقير الذي تبلور وإنفضح دوره النهائي في الإنقلاب الثاني المعروف بالطائرة الملكية في أغسطس/ آب 1972 وحينما حاول قائد قاعدة القنيطرة الجوية المقدم محمد أمقران و بمعاونة نائبه المقدم كويرة إسقاط طائرة الحسن الثاني القادمة من باريس في البحر المتوسط وبتدبير وإتفاق مع وزير الدفاع الأسبق ورجل ثقة الملك والمتهم الأول في تصفية المهدي بنبركة الجنرال أوفقير وحيث وردت إعترافات المعتقلين من الطيارين لتؤكد دوره التآمري ولينتهي بعد ذلك دوره السياسي والعملي دون أن تنتهي مدرسته أو يتلاشى طلابه والذين كان أبرزهم الجنرال الشهير أحمد الدليمي الذي قتل أوائل عام 1983 في مراكش إغتيالا أيضا على خلفية مؤامرة عسكرية أخرى كانت آخر المؤامرات التي هزت الحياة السياسية القلقة في المغرب عبر التحالف العسكري/ الحزبي لإحداث التغيير، وهو مانجح نظام الحسن الثاني بمعجزة في تجنيب المغرب ويلات الإنقلابات العسكرية بعد أن نجح الملك الراحل بحنكنه السياسية وبكثير من الحظ ايضا في تغيير مسار المغرب الحديث والدخول في أخريات أيام الملك الراحل في عملية سياسية ومصالحة وطنية شاملة شملت مرحلة ماعرف ب ( سنوات الرصاص ) وهي الفترة الواقعة بين أعوام 1958 و 1992 وحينما فتحت المعتقلات السياسية و العسكرية الرهيبة وتم إعلاق ملف سجن تازمامرت الصحراوي المرعب الذي إلتهم حياة العشرات من المعارضين بطريقة وحشية فظيعة شبيهة باساليب العصور الوسطى، وتمت عملية جبر الضرر و تعويض المتضررين وهي عملية معقدة لم تنته مع نهاية حياة الحسن الثاني في تموز/يوليو 1999 بل إستمرت في عهد خليفته محمد السادس بوتائر أكثر رسوخا وشمولا و إنفتاحا و شفافية، لقد أنهى الحسن الثاني حياته بإعادة ترتيب البيت الداخلي المغربي وفق أسلوب ماعرف وقتذاك بحكومة التناوب التي أسند رئاسة الحكومة لأحد رفاق المهدي بنبركة وهو واحد من كبار المعارضين والمحكوم عليهم بالإعدام سابقا السيد عبد الرحمن اليوسفي عام 1998 وحيث قاد اليساريون لأول مرة الحكومة المغربية بالمشاركة مع الملك أيضا وهي تجربة رغم فرادتها إلا أنها لم تستمر طويلا و أنتهت بعد رحيل الحسن ولكنها حققت الضربة الأولى في مسلسل مستمر من المتغيرات التي أدت في نهاية المطاف لتعديلات دستورية كبرى عام 2011 ووصول تيار الإسلام السياسي المعتدل لقيادة الحكومة المغربية بعد فوز حزب العدالة و التنمية بقيادة عبد الآله بنكيران بغالبية المقاعد الإنتخابية وليتوصل الإسلاميون بالسلطة في المغرب في زمن الثورات العربية التي أوصلت نظرائهم للسلطة في تونس ومصر وليبيا إلى حد ما فيما لم تتمخض الثورة السورية الكبرى عن نتائج واضحة بعد، وبرغم صعوبة المهمة في المغرب من حيث مواجهة التحديات و المطالب الإصلاحية المستعجلة و الملفات المتجددة إلا أن ملف قضية المهدي بنبركة لم يزل محاط بغموض وتكتم شديدين، فرمز الحركة الوطنية لايوجد قبر يضم رقاته في وطنه!! ووثائق المخابرات الدولية المغلقة لم تشف غليل الباحثين عن الحقيقة، ومازال المغاربة رغم أطنان الملفات في حالة حيرة متجددة حول جثمان الفقيد، هل تحلل بالآسيد ؟ أم أنه مدفون في قبر سري..؟ أم ماذا بالضبط... الشيء المؤكد أن المغرب قد نجح في إنصاف مناضليه ورد الإعتبار لتضحياتهم، وهي خطوة صغيرة ستتبعها خطوات بكل تأكيد من اجل المصالحة مع الماضي والإستمرار في بناء الوطن في الزمن الصعب، وحيث كل المفاجآت واردة والخيارات مفتوحة.
[email protected]