(ريبوتات)


*على الشاطىء، تجدهنّ قصيراتٍ نحيلات. (أُسميهنّ quot;فتيات القفص الصدريquot;). يلففن على الروّاد، وفي يدهن رقعة ورق، وفي الأخرى، كيسٌ به سائل مُرطّب وشرشف.
يمشين ولا يكففنَ عن النّبْر بسرسعة كأنها معدن: مساش. مساااش. ويحاولن إغراءك بالتجربة حتى لو لم تكن ترغب. إنهنّ يتلقطن رزقهنّ، خاصةً من السوّاح.
أمس، كنت أستمتع بشمس الشتاء، مسترخياً على الرمل البُنيّ، شبه غافٍ. فإذا بواحدة منهنّ تدلّك قدمي العارية وتغريني برخص الثمن: 5 يورو. فقط 5 .
صرفتها بلطف، وتابعتها. وقعتْ على ثلّة شباب من بريطانيا. ألحّت، فقبِلَ أحدُهم. فرشت الشرشف بسرعة، وشرعت تصب السائل وتدلّك. انتهت من نصفه الأعلى، فطلبَ تدليك ساقيه و قدميه ومشطهما. قالت: 5 يورو أخرى. وافق. وانتهت بعد دقائق. بعدها رغبت شابّة منهم أن تجرّب أيضاً، فاستلقت على الشرشف، وفكّت رباط الصدر، وهكذا.
أنهت الصينية، خلال نصف ساعة، تدليك أربعة. وفي الأثناء، جاءت صينية ثانية، ونادت، فأعطاها شابٌّ آخر ظهره وشرعت تعمل. غضبت الأولى، لتعدّي الثانية على منطقتها، وبدأت وصلةُ ردح خشن بين المدلّكتين.
انبسط البريطانيون، وهم يتابعون وقائع المعركة. أما أنا، صُدمت من نبرة اللغة الصينية، بالأخصّ وأنا أسمعها من قروياتٍ، يمارسن عملهنّ أشبه بالروبوتات.
كانت نبرة حادّة، منفّرة، أكاد أقول حيوانية. ومما فاقمَ صدمتي، موافقة الأولى على تلبيس أحد التيوس جواربه وجزمته الجلد، في نوعٍ من العبودية.
الصينيون بعامة، يأتون إلى هنا، بهدف وحيد: جمع أكبر قدر من المال. وعندهم كل الوسائل مشروعة لتنفيذ هذه الغاية. لا يندمجون مع المجمتع الكتلانيّ، مهما تطُل إقامتهم. أغلبهم يمارس التجارة. وحياتهم محصورة بين قوسين: العمل والبيت. يسكنون في غرف جماعية، ويتكدّسون فوق أسرّة عمودية، لتوفير أُجرة الكِراء. وينغلقون على أنفسهم، فلا ترى لأحدٍ منهم نشاطاً أو علاقاتٍ خارج نطاق البزنس الرخيص. طبعاً أتكلّم عن العموم. والعموم هؤلاء، يتزوجون من بعضهم البعض، وإذا ما أنجبوا، يرسلون الوليد للجدّة في الصين، توفيراً لمصاريف التربية، وأيضاً للوقت الذي يكرسونه كلّه للعمل.
الآن، بعد شهور من إقامتي، يتعزّز ذلك الانطباع الأول عنهم: ريبوتات!
(برشلوني من أصل مصري)

*من النادر أن تجد مصرياً في برشلونة. قبل مدة تعرّفت على إبراهيم أبو خليل، وهو رجل خمسيني ذابل، ينام في كراج بشكل سري، ويتلقط رزقه من القمامة. وجدته يتأمل أجساد العاريات على الشاطىء، ويهمس لنفسه بصوت مسموع: والنعمة همّا دول الحور العين إللي بقولوا عليهم! كان وحيداً مثلي، ولما كنت قد همست قبله، في نفس الموقف، تقريباً بنفس الخاطر، فقد رحّبت بصحبته.
بعد أسبوع، قال مقدّماً حاله لصديق لبناني: أبو خليل. برشلوني من أصل مصري. قالها بكل وقار وجدّية.
ولأني أعرف، أنه شرّف برشلونة فقط من خمسة شهور، استغربت.
مضى الصديق اللبناني لشأنٍ بعيد، وتركني مع أبو خليل نتأمّل الحلوات. قلت له: إزاي يا عم تقول عن حالك كده وانت ملكش هنا غير جمعتين؟
قال: ومالو يا خويا؟ أصل أنا بحب أندمِج بسرعة.
لم يقنعني الكلام، قلت: لو كان لك ثلاثين أربعين سنة، لكان معقول. ردّ: وفيها إيه؟ أنا طنطاوي، ولما نزلت القاهرة كنت بقدّم نفسي لولاد القاهرة: قاهري من أصل طنطاوي.
ـ تقديم عن تقديم يفرق يا أبو خليل. قال بغضب:
ـ لا ميفرقش. وتركني.
انقطع أبو خليل عن زيارتنا المنتظمة للشاطىء. وأنا نسيته. بعد شهر، ذهبت يوم الأحد، في نفس الموعد. وجدته هناك، على الجسر أمام مجسّم السمكة.
ـ وين هالغيبة يا راجل؟
ـ في السجن يا عم.
ـ يا ساتر يا أخي. خير؟
ـ لا، بس اتخانقت مع تايلندي كان بزاحمني على السوبر ماركت بتاعي. قمنا ضربنا بعض وجاءت الشرطة.
ـ يا رجل! تتخانقون على غنائم مزبلة؟
ـ أصلك متعرفش مزبلة سوبر ماركت ديو. دي فيها خير ربنا كلّه. خضروات وفواكه وخبز وفراخ مشوية وquot;مآربُ أُخرىquot;.
ـ مآربُ أُخرى!
ـ إيه؟ مستكتر جملة زي دي على واحد زيي؟
ـ لا، العفو. أصلك فاجئتني بفصاحتك.
ـ كده برضو؟ إخص عليك ملكش صاحب.
غاب أبو خليل، شهراً آخر، ولم أعد أراه. وفي واحد من أحلام الصباح، رأيته في قاعة الترحيل بمطار برشلونة الجديد، وبينه وبين الضابطة الإسبانية يجري الحوار التالي:
ـ من أين؟
ـ برشلوني من أصل مصري.
والضابطة تبتسم وتخجل من غرابة التعبير. بينما أقوم أنا مكتئباً، مستوحشاً، وأُقرّر البحث عنه للتوّ في مرابضِهِ المعهودة.
علّ وعسى.

(إيش الحكاية يا عَدَوي؟)

أصبحت مملكة إسبانيا، مثل إمارة غزة: طاردة لأبنائها الكرام. قبل الأزمة، في فترة البحبوحة يعني، كنت تجد هنا من كل الأجناس. بالذات من أمريكا اللاتينية. الآن انقلب الوضع. تذهب إلى دول الكاريبي، كما أخبرني صديقي الشاعر المكسيكي، فتجد برشلونيين وأندلسيين وباسكيين. ما أكثرهم! يستهجن صديقي، ونحن نتمشّى آخر الليل، تحت المطر الناعم، في حيّ برسلونيتّا، الذي كان قبل نهضة الأولمبياد، حيّاً للعاهرات والفئران، والآن هو حي سياحي يجاور البحر.
بعد يومين، طرحت الموضوع مع مثقفين كتلان، فقالوا إن دول الخليج العربي الثرية، صارت محطّ أنظارنا ومهوى أفئدتنا (طبعاً الجملة الأخيرة مني). وأنا، للحقيقة، استغربت. استغربت كيف تتشابه الإمارات الإسلامية مع المملكات الكاثوليكية، في المقاصد والغايات وحتى الأحلام. فنحن كمان في غزة، نحلم بدول الخليج.
إيش الحكاية يا عَدَوي؟

(قارّة الحلم الشرقي)

*البرجوازي الصغير في أوروبا، يحرت كالبغل طوال السنة، من أجل أسبوعين سياحة في بلد خارج الحدود. ضروري quot;في بلد خارج الحدودquot; هذي، لأنها تدلّ على (علو الكعب الاجتماعي).
يجلس طوال الفصول الأربعة، وهو يخطّط مع زوجته أو صاحبته أو بنيه، آناءَ الليل خاصةً، أين يقضون الإجازة؟ في أي بلد؟ وفي أي فندق أو شقة؟ وعلى البحر أم فوق الجبال؟ وفي الأخير، يأتون، فرِحين، مستبشرين، وشنطهم على أكتافهم، متفتحِي النفس والحواسّ الخمس، للاستمتاع بكل ثانية من وقت الإجازة.
البرجوازي المتعوي الصغير، ينسى في خضم الإجازة، وقبلها وبعدها، أنّ هذه المدة هي مجرد حلم حرية عابر. يعود بعده، ليكدح كالمكّوك أو كالعبد، سيّان، طوال أحد عشر شهراً بأيامها التي تبدأ من التاسعة صباحاً وتنتهي في السادسة ليلاً.
هكذا تمضي حياة البرجوازي الصغير في قارّة الحلم الشرقي: أوروبا!

(لصوص مغاربة)

*سمعت عنهم، منذ قدومي حكايات كثيرة. سالم، الروائي الأمازيغي الجزائري، وترجماني في برشلونة قال: إنهم مع بعض اللصوص الجزائريين القادمين من العاصمة، متخصصون في سرقة السوّاح. وفضلاً عن ذلك، حذّرني منهم. قلت: وايش تاخد الريح من البلاط؟ فقال متأكّداً: بلى ستجد ما تأخذه.
مضت شهور، ولم أتعرّض لأية سرقة باستثناء واحدة لم تحقق غاية مرتكبيها الأذكياء. وإليكم القصة: كنت أتمشّى في منطقة الميناء المبلّطة، ذات مساء، وشعرت بنقص سكّر مفاجىء، ولم تكن علبة الماء المُحلّى معي، فانهرت، وصرت أنقّل خطاي بصعوبة بالغة. وأمشي الخطوة بقدم متشجنّجة كأنها الكيلو متر. استنجدت في الأخير بكرسي عام قريب وبالكاد وصلته، فألقيت بجثتي لأستريح. لاحظ أحدهم حالي على ما يبدو فظنّ أنني سكران. جاء وجلس بجواري وسألني عن عنوانٍ فقلت بكتلانيّتي المتواضعة: لا أعرف. قال: أنا إيطالي، وأنت؟ قلت له. بعد لحظات جاء شرطيان سريان بلباس مدني وأبرزا بطاقتيهما، وسألاني والإيطاليَ بكل أدب: هل تدخّنون؟ أخرج الإيطالي علبته المالبورو، فتناول أحدهما سيغارة وشمّها ثم قسمها نصفين وشمّ تبغها بعناية وألقاها أرضاً. قال الثاني: هل معكما أي نوع من العملة؟ دولار يورو ين؟ أنكرت. طلبا شنطة الكتف المركونة بجواري، وفتّشاها فعثرا فيها على نصف سيغارة وفلوس فراطة. قالا: هل لديكما مال؟ رد الإيطالي بحماس: نعم. وأخرج من محفظته مالاً ورقياً كثيراً. قالا: وأنت؟ أريتهما الشنطة مرة أخرى، فأشارا لجيوب القميص، فأريتهما الجيوب.
عندما تيقّنا من إفلاسي، نصحاني بعدم المشي في هذه المنطقة : quot;لأنك رجل محترم وهذه المنطقة خطيرة ومشبوهةquot;. ومضيا ومضى الإيطالي، وعدت أنا بمعجزة للبيت القريب في حيّ البورن. حكيت القصة، في ما بعد، لإحدى الكتلانيات، وأنا أفرط في مديح الشرطيين الخلوقين، فقهقهت وقالت: إنها تمثيلية وإنهم لصوص. إنتبه!
لم أجد أيّ داعٍ للانتباه، ومضت الأيام. حتى كنا ذات صباح مشرق عائدين من مقابلة مسئول رفيع في بلدية برشلونة، في شارع قوس النصر. وكنا نقطع الإشارة الضوئية فإذا بشاب مغربي يجري وفي يده شنطة كتف خطفها من سائح عجوز وحيد. الشاب يجري كالسهم، ثم يختفي في أحد الأزقة القوطيّة، بينما السائح اليائس يكابر ويحاول اللحاق دون جدوى.
لقد فقد شنطته إلى الأبد! إذا وجدوا فيها فلوساً أخذوها، وإن لا رموها بأوراقها في الليل، فتأتي البلدية وتعطيها للشرطة. وهكذا تمضي الأمور. قال سالم وأضاف: تعرّفت على شيخ مغربي يصلي ويصوم وبعد الإفطار في رمضان يذهب ليبيع المخدرات للكتلان. سالم استهجن منه هذا السلوك فردّ المغربي عليه: إنك لا تفهم معنى الآية: quot;وجاهدوا اليهود والنصارىquot;. أنا أجاهدهم بطريقتي!
عموماً معظم المغاربة هنا ناس من القاع، وقلّة منهم متعلّمة أو ذات شهادات عليا. وسُمعتهم شاعت كلصوص محترفين وتجار مخدرات. مع ذلك، لي معارف راقون جداً وفي غاية اللطف والتهذيب. لذا لا يصحّ وصف جالية هي الأكبر عدداً بين العرب، بتلك الصفات. فثمة وثمة، مثل أي جالية، ومثل أي تجمّع. بل لمَ لا نقول: مثل أي أسرة صغيرة حتى؟

(فاكهة الشيريمويا)

كنت رأيتها في سوق لابوكوريا بأحجامٍ كبيرة وسعرٍ مرتفع. وأمس اشتريت من محلّ صيني 2 كيلو منها ب2 يورو فقط. فاكهة غريبة، وقلت أُجرّبها. (وجودي هنا فرصة مؤاتية لتجريب مالا أعرفه من طيّبات الأرض). المهم دخلت الشقة وغسلتها وأتيت على نصف الكمية في وجبة واحدة. طعمها قشدي خفيف وتذوب حلاوته فوق اللسان. لذا أكلتها، كما آكل الأجاص، ببذورها السوداء ولحائها الأخضر غير السميك.
اليوم أردت التعرّف على اسمها وخصائصها، فبحثت عنها في محرّك غوغل، وصُدمت! يقول الأخ: [هي بوظة طبيعية تجمع نكهتها نكهة الفواكه الاستوائية والموز والفراولة وطعمها قشدي تماماً كما في المثلجات المختلفة. لذا يقوم متناولوها بتجميدها قبل تناول ما بداخلها بالمعلقة. ويتجنّب محبّوها تناول بذورها أو لحائها. فلحاؤها يسبّب الشلل عند هضمه كما أن بذورها سامة عندما تطحن. ولذلك فإننا نجد أن تناول هذه الفاكهة بالرغم من حلاوتها لا يضاهي المشاكل التي قد تصيب من يتناولها.]
يا للمصيبة! شككت في حالي، رغم استيقاظي بصحة زي البمب. ورغم ثقتي القديمة الراسخة بأمّنا الأرض وبهباتها. ولكي أتأكّد قمت وأتيت على الكيلو الباقي بنفس الطريقة. انتظرت ساعات وثقتي القديمة يعتريها الشكّ. لكن أيضاً لم يحصل شيء. ساعات أخرى والنتيجة ذاتها. أفلا يخجل غوغل الأوروبي إذن؟ أم أنه صار مثلنا نحن العرب: يكذب بلا حرج ويفتئت حتى على النبات!

(برج أغبار القبيح)

شاءت الصدف أن أشارك في ندوة مع مؤرّخ يهودي ضد الصهيونية، أقامها تروتسكيّون كتلان ويونانيون، في مركز ثقافي بحيّ بلينو، لا يبعد عن البرج الشهير سوى أمتار. وصلنا البرج قبل الغروب، وتأمّلته فساءني قبحه الخارجي. البرج عبارة عن مكاتب لشركة المياة البرشلونية. صمّمه المعماري الفرنسي جان نوفيل، وافتتحه العاهل الإسباني عام 2005 بتكلفة 130 مليون يورو بعملة ذلك الزمان. يبلغ طوله نحو 142 متراً،وهو مغطّى كله من الخارج بشبكة من شرائح الحديد أو البلاستيك أو الألومنيوم (لا أعرف، لكنها على كل حال، قبيحة جداً حين تراها عن كثب). عندما انتهت الندوة وخرجنا، كان الليل قد ليّل، وأُشعلت أنوار البرج، فبدا فاتناً، وكأنه برج آخر غير الذي رأيناه! برج أغبار الذي quot;صُمّم ليبدو وكأنه منبعث من الأرض متدفقاً مثل موجة شفافة من المياهquot; وكذا ليكون quot;إضافة حديثة إلى أفق برشلونةquot;، ليس فيه قلامة من هذه اللغة الشعرية. وأُعيد وأؤكّد أنه جمالياً يبدو لي ككتلة صمّاء، هي لا شيء، بدون لعبة الأضواء الليلية الساحرة ذات الألوان!