بجاء حافظ الأسد ومضى، وهو quot;السوري الأولquot; وquot;الوطني الأولquot; وquot;القومي الأولquot;. وفي كل شيءٍ هو أولٌ، والسوريونَ، في محلٍ أخير.
وهكذا كان توأمُهُ وشبيههُ الحافر بالحافر: صدام حسين. ومن بعدهما: زين العابدين بن علي، ومعمر القذافي، وحسني مبارك، وعلي عبد الله صالح، وبقية السلالة المستنسَخة من مسخٍ واحدٍ، في أربعة أركان الغبار العربي.
فهؤلاء حكام وطنيون بالدرجة الأولى. ومن أي منطلق. أما المعارضون لهم، مهما قلّ تأثيرهم (حتى لو كانوا شاعراً وحبيبته في المنفى) فخونة ولاوطنيين، ومن أي منطلَق أيضاً.
هكذا عشنا زمن الأسود والأبيض في السياسة العربية المعاصرة، رغم أننا فارقناه في السينما والأفلام منذ عقود.
فهل كان حافظ الأسد الذي دمّر حماة ولبنان وشقَّ الصف الفلسطيني، بدهائه الخشن، وطنياً وقومياً ومنتمياً لسوريا؟ وهل كان صدام حسين الذي دمّر العراق بغبائه الخشن وطنياً ومنتمياً لبلده العراق؟ وهل كان مبارك بغبائه البليد الذي قزّم مصر وجعلها في آخر المطاف حذاءً في قدم إسرائيل وطنياً حقاً؟
وهل كان الأسد الشبل وسواه وسواه من سلالة المسوخ وطنيين؟ كلا بالطبع. فالوطني الحقيقي من يبني بلاده ويراعي مصالحها ويأخذ بيدها نحو التقدم والرفاه لا العكس.
لقد كان هؤلاء وطنيين، على شاكلة من قال فيهم أحد المفكرين الأوربيين ذات قرن قديم: quot;الوطنية ملاذ الأوغادquot;.
فقد كانوا، قولاً وفعلاً، بداياتٍ ومآلات، تجربةً وعياناً، أوغاداً. محض أوغاد.
وإذا استكثر قارىء ما هذا الوصف عليهم (فثمة الكثير من القرّاء مصابون بالعمى وفضلاً عن ذلك، معدتهم ضعيفة لا تهضم البديهيّات) فلينظر لما فعله هؤلاء الحكام في ترابهم الوطني وفي شعوبهم، بعيداً عن نظرية المؤامرة، وبعدها فليحكُم.
من هذا المدخل، أنظر الآن إلى المأساة السورية. أنظر وبي شعور عميق لا يبرح، بأنّ بشار الجزار سوريٌّ مزوّر. سوري دخيل. سوري لا ينتمي لسوريا الوطن والشعب، الحضارة والتاريخ. وإنما ينتمي لقصورٍ معزولة ولعائلة صغيرة فقط.
عائلة أمضى في كنفها سنوات عمره، معزولاً عن نبض ووعي السوريين، ومنشغلاً بتفاهات رفاهيته اللامحدودة في دمشق ولندن وسواهما من العواصم.
ومع كل هذا الكلام المكرور، يظل حالي حالَ القائل quot; إني لأفتح عيني حين أفتحها/ على كثيرٍ ولكنْ لا أرى أحداquot;. ويا ليت هذا حالي فقط، لهان الأمر. ولكنه حال شعب بقضّه وقضيضه. شعب يصل تعداده إلى 24 مليون نسمة، بعد 16 شهراً من التضحيات الجسام والمقتلة وبراميل المتفجّرات ومخيمات اللاجئين والتنكيل بالبشر والحجر وحتى الهواء.
شعب محاط بالعرب والمسلمين العاجزين. بالغرب والشرق القويّ، ولكن لا أحد منهم يراه وهو يدفع الثمن الأبهظ لهذا الربيع العربي الذي لطالما حلمنا به وانتظرناه.
لا أحد يراه. لقد تركوه وحيداً ـ وهو الأعزل ـ أمام ألاعيب القادرين، وعنف وعسف تلك العصابة التي تحكمه وتتحكّم في أنفاسه، منذ أربعين عاماً ونيّف.
هل نقول: أللعنة؟ سنقولها لا شك، ونحن نعرف لاجدواها. سنقولها من القهر والألم، كنوع من التنفيس الفردي لا أكثر. وسنقولها أيضاً، كتأكيد إضافي، على يأسنا القديم من مسيرة وسيرة ومسعى النوع البشري الضالّ.
النوع الداخل في ألفية ثالثة، بأقبح وأعتى من دخوله سنوات ما قبل الميلاد.
لقد تُرك الشعب السوري كالذبيحة لسواطير الطاغية. بينما العالم كله يجلس على كنبة في الصالون، ويتفرّج.
عموماً، وفي كل الأحوال، فهذا الجلوس، ليس ابن ساعته، بل جلوسي تاريخي بأتمّ معنى الكلمة.
وعليه، يمكن القول: لا جديد تحت شمس المجازر والإبادات الجماعية. في عالم لا تحكمه أيُّ غبارة من المبادىء والقيَم. لا جديد أبداً: قديماً كانت الإبادات تحدث والعالم يجلس على جذع شجرة أو مصطبة بيت أو صخرة ناتئة في الدرب ويتفرّج. والآن، بحكم التطوّر الحضاري quot;العظيمquot;، صارت الإبادات تحدث والعالم يجلس على كنبة في الصالون وبيده موزة ويتفرّج.
هذا هو الفرق فقط. الفرجة هي هي. الضحية هي هي. والجالس المتفرّج هو هو. فقط المجلوس عليه يختلف أنواعاً وألواناً وأشكال ..
أللعنة على زمن الأوغاد!