أن الذي يعتقد أن الفاكهة تنضج في وقت واحد كما الفراولة, لايعرف شيئا ً عن العنب! حكمة يسردها أريك فروم إذ يتحدث بها عن الحب والمعرفة. لاحب بلا معرفة بمعنييها النظري والعملي, كأي فن آخر. يذكر الكاتب بأن الحب, اي حب, كحب النفس والوطن وحب الحبيب وحب الله, هو جواب لسؤال وجودي لطالما شغل بال الإنسان. فعندما يولد الإنسان تولد معه القدرة على إدراك الأشياء, كإدراك وجوده الحالي, إدراك ماضيه وإدراك كل الأمكانات لإستشراف المستقبل. يولد الإنسان ويولد معه سؤال دائم يجلب له الخجل والشعور بالذنب لأنه يولد معه عاريا ً كما خلقه الله. السؤال هو: كيف يمكن التغلب على حالة الضعف أو حالة الإنفصال عن الطبيعة, كالإنفصال عن رحم الأم وفيما بعد الإنفصال عن ثديها, أوالإنفصال عن العائلة نفسيا ً بعد البلوغ حيث يكون الإنسان أكثر خصوصية. إن الإنفصال, نقطة الضعف التي تجعل من الإنسان يشعر بالوحدة والعزلة والقلق الدائم الذي لاينتهي إلا بالعودة مجددا ً, العودة لزمن التوحد مع الذات من خلال الآخر, ليكون الجواب على هذا السؤال الوجودي من خلال تقديم القرابين, إشعال الحروب أو العودة للدين بحب الخالق.
أن ذلك القلق يجعل من الإنسان يشعر بالإغتراب فيبحث عن موضوع يتوحد فيه ليتجاوز تلك المحنة, فيمكن أن يكون هذا الموضوع هو البحث عن إله أو البحث عن طرف آخر في علاقة حميمية بحته, أو حتى يمكن أن يكون الحب نفسه. نعم, الحب هو جواب لسؤال لطالما حير وأقلق الإنسان, الحب بكل أنواعه, أو قل الحنين, الحنين للعودة للماضي, إلى التلاحم مع الطبيعة من خلال البحث عن النهايات, حتى لو كانت مؤلمة كالموت, فالموت نفسه هو نوع من أنواع العودة إلى رحم الأرض التي أتينا منها.
يقول بدر شاكر السياب:
هل تسمين الذي ألقى هياما؟

أم جنونا بالأماني ؟ أم غراما ؟

ما يكون الحب ؟ نوحا وابتساما ؟

أم خفوق الأضلع الحرى ، إذا حان التلاقي

بين عينينا ، فأطرقت ، فرارا باشتياقي

نعم, حتى هذا الحب الرومانسي الذي ساد العصر الفيكتوري, أو ذلك الذي أرتبط بمعنى الحب العذري في قصائد الشعراء العرب, تلك التجربة الذاتية البحتة, يمكن أن تكون جوابا ً عن معنى الوجود والعدم, الذات والآخر والحياة والموت. هذا الحب الذي يحتفل به العشاق في الرابع عشر من فبراير هو جزء يسير من معنى الحب الشامل في إطاره الإنساني الواسع. فبالرغم من إرتباط هذا المناسبة بالقديس فالنتاين, وهو ماليس له علاقة بالحب الرومانسي, إذ يتحدث التاريخ عن صراع بين الإيمان والوثنية في زمن الرومان , فأنه بلا شك يبقى محدودا ً لما نحتاج له اليوم كي نجيب عن سؤالنا الوجودي عن الموت والحياة والوجود والعدم, عن الخوف والإيمان عن الحرب والسلام. فعيد الحب في الزمن الحالي, بعيدا ً عن العصر الفكتوري أو زمن الحب العذري, يرتبط إرتباطا ً مباشرا ً بفكرة تجارية بحتة وهي الدعوة للمزيد من التسوق من خلال الترويج لهذا اليوم حاله كحال يوم عيد الميلاد حينما تروج الدعايات لأنواع كثيرة من الهدايا والسلع وإقامة الحفلات, بل يروج لقيم ومعايير يصبح من يشكك فيها شاذا ً وغريب الأطوار أوربما يتهم بأنه لايعرف معنا ً للحب.
من هذا المنطلق قام الكثير من علماء الدين المسلمين بتحريم الإحتفال بهذا اليوم, ليس كرهاً بمعنى الحب بل لأنه عيد نصراني, على حد قولهم, مقسمين فيه العالم على أساس ديني. فالعالم حسب رئيهم ينقسم إلى مسلمين وغير مسلمين, فحين يرتبط الحب بغير المسلمين لايبقى للمسلمين إلا عيد الكره. أي سذاجه تلك التي تقسم المشاعر فضلا ً عن تقسيمها العالم إلى مسلمين وغير مسلمين. بل حدا بأحدهم لتحريم عيد الحب جملة وتفصيلا ً لأنه يؤدي, حسب ما يعتقد, إلى أنه يدعونا لنشر المحبة بشكل شامل وواسع, وبذلك سوف لانجد بدأ من محبة الكفار وهذا لايجوز شرعا ً, إذا, عيد الحب حرام من هذا الباب, أليست هذه بدائية في التفكير. ربما تكون كذلك لكنها بالتأكيد يمكن أن تكون أيضا ً جواب عن سؤال وجودي يأتي من أضيق الأبواب وهو الكره, نعم الكره بدل الحب. فحينما نعجز عن حب بعضنا البعض, سوف نكون بالتأكيد مستعدين لكره بعضنا البعض.
هل نحن بجاجة لعيد الحب, أم نحن بحاجة للحب؟ هل نحن بحاجة للحب فعلا ً كي نخفف من ذلك الألم وذلك القلق الذي يولد ويعيش معنا في كل لحظة؟ بالتأكيد نعم, ولكن ليس الحب بالمعنى الرومانسي فحسب, بل الحب بمعناه الشامل الذي يتضمن كل الإنسانية. الحب الإنساني, هو الجواب على سؤالنا الوجودي الذي يولد مع الإنسان, ذلك الذي يولد العزلة والإنفصال والشعور بالوحدة والإغتراب النفسي. ربما يكون الحب الرومانسي على مستوى التجربة الشخصية جوابا ً عند البعض من الناس, لكن الإندماج بالمعنى الإجتماعي بين مختلف مكونات المجتمع من دون أن تتنازل عن خصوصياتها الذاتية التي تمنحها الهوية هو معنى آخر للحب والتوحد من خلال اللآخر, الآخر المختلف الذي لانكتمل إلا به.
نعم, هناك طريقان للإجابة عن سؤالنا الوجودي, الطريق الأول هو من خلال نشر الكراهية بإشعال الحروب المدمرة لنغرق في حب النفس, حب الذات, حب السلطة وحب الإستهلاك. أما الطريق الثاني فهو من خلال الحب, حب الآخر, حب المعرفة, حب الخير وحب الإنسانية. مانحتاجه اليوم هو الحب وليس عيد الحب فقط, مانحتاجه هو معنى الحب وليس شكله, مانحتاجه هو جوهر الحب وليس أطاره الجميل. فعالمنا الغارق بالدماء والحروب والجوع والإستغلال بكل أصنافه يحتاج لجرعة من مشاعر جميلة لنجعل منه أفضل. يمكن أن يكون الإحتفال بعيد الحب مدخلا ً جميلا ً للحب الإنساني, وذلك من خلال التجربة الذاتية للفرد, لكنه بالتأكيد غير كاف لجعل البشرية تشعر بالسعادة. وحين لانتقن فن الحب, سنفتح حينها ألف باب للكراهية.


[email protected]