دأب الرئيس مسعود البرزاني منذ فترة على التهديد بحق تقرير مصير الكرد واعلان دولة كردستان من خلال استفتاء الشعب الكردستاني، وقد تكرر هذا التهديد في الفترة الأخيرة بسبب تعمق الخلافات والمسائل العالقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة اقليم كردستان في اربيل، ويبدو ان البرزاني لجأ الى استعمال هذا الأمر كورقة ضغط على نوري المالكي الذي يسير باتجاه الانفراد المطلق للسلطة والذي أشعل عدة حرائق مع أغلب الاطراف السياسية العراقية من أجل تحقيق أهدافه في السيطرة على حكم الدولة العراقية المشوهة.

ولا ندري ما الذي يدفع برئيس الحكومة الاتحادية الى إشعال كل هذه الحرائق السياسية مع الاطراف المتحالفة معه في البرلمان والحكومة، فبعد أن أشعل الحريق الأول مع القائمة العراقية ورئيسها أياد علاوي بخصوص مجلس السياسات الاستراتيجية، واصل حريقه من خلال الاستيلاء على الوزارات الأمنية الدفاع والداخلية بالوكالة، وثم أشعل حريقه الثاني مع المجلس الاسلامي الأعلى ورئيسه عمار الحكيم فترتب عنه استقالة عادل عبدالمهدي من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية، ثم أشعل حريقه الثالث مع التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، وحريقه الرابع مع طارق الهاشمي فدفع به ان يخرج من بغداد ليستقر في اقليم كردستان، والغريب ان المالكي لم يكتف بهذه الحرائق التي لم تطفأ نارها منذ تشكيل الحكومة ولحد الان، فأشعل الحريق الخامس مع الكرد ورئيس اقليم كردستان سمعود البرزاني، والمؤسف ان المالكي لم يكتفي بحصر هذه الحرائق السياسية داخل العراق بل جعلها محل تجاذبات اقليمية بين الدول المجاورة وخاصة ايران وتركيا، فدخل على الخط رجب طيب أردوغان ونشب تبادل تصريحات بينه وبين المالكي.

ولاشك ان من يشعل الحرائق السياسية بعيدا عن دوافع تكتيكية ايجابية وبعيدا عن أسباب عقلانية ومنطلقات منطقية لا بد ان يحترق بنارها، والمالكي يبدو انه على أبواب احتراق نفسه بنار الحرائق التي أشعلها بنفسه، بدليل ان الاطراف التي أشعل الحرائق معهم حصل تقارب بينهم وباتوا يقتربون من جمع أغلبية برلمانية لاسقاطه من رئاسة الحكومة لاطفاء الحرائق التي أشعلها والتي لا يشم منها الا رائحة الدكتاتورية والطائفية المقيتة ونهب أموال العراقيين، وهنا يمكن طرح الاسئلة التالية: لماذا هذا الاصرار الشديد من المالكي لإشعال كل هذه الحرائق ؟ وهل يعقل ان يكون بدفع من النظام الإيراني للاحتفاظ بموازنة قلقة واستقرار سياسي قلق في العراق لخدمة الملفات والمصالح الايرانية؟ وهل بعقل ان يكون المالكي الى هذا الحد خاضعا وتابعا لنظام الملالي في طهران على حساب البلاد والعراقيين؟ انها مجرد أسئلة ولكنها تختلج في نفوس كل عراقي يعاني بالم شديد من الوضع الناتج من الصراعات الحزبية ومن حالة عدم استقرار العملية السياسية في البلاد، ولهذا فان الضرورات العراقية تقضي بظهور عقلاء الساسة على الساحة لاطفاء كل هذه الحرائق السياسية المشتعلة في الواقع العراقي.

ما يهمنا في هذا الشأن هو ما يخص دعوات الرئيس البرزاني لاعلان الدولة الكردية في شمال العراق، وتزامنا مع هذا الاتجاه دعى نائب رئيس الاقليم كوسرت رسول علي الى الاستفادة من التغييرات التي حملتها ثورات الربيع العربي الى المنطقة، بينما علق نوشيروان مصطفى على ان الدولة لا تبنى على اعمدة من الهواء وانما تبنى على أسس متينة لتكون قادرة على البقاء والرسوخ.

وفي ظل تحليل الأحداث الراهنة والمقارنة بها بما يجري في المنطقة، نجد ان الواقع الكردستاني يتمتع باستقرار وتقدم عمراني وخدماتي، ولا يتسم بقمع واستبداد سياسي، ولكنه يتسم باستبداد اجتماعي وغياب تام للعدالة من خلال فرض سطوة مركبة للسلطة والثروة من قبل مجموعات مركبة من مسؤولين ورجال أعمال وعوائل للسيطرة والاحتكار والاستغلال ونهب موارد وممتلكات الشعب والحكومة والمقتدرات الاقتصادية والموارد التجارية للاقليم، وهذا الواقع حول البرزاني الى سلطان منفرد وحاكم مترفع ومتكبر يتربع على عرش جبل بيرمام وقمة سري رش وكأنها ملكية خاصة ليحتمي فوقها بعيدا عن هموم المواطنين وصرخات وآهات الفقراء والمستضعفين والمحتاجين عن الارتفاع الجنوني لأسعار الأراضي والعقارات والبيوت السكنية بسبب المجموعات الجشعة التي تتاجر بها من خلال الاستيلاء على الاراضي الزراعية والمتاجرة بتنسيق مع بعض المسؤولين والسياسيين والتجار المارقين، وهذا ما تسبب بروز فوارق طبقية هائلة وخيالية بين مكونات المجتمع الكردستاني بفعل سيطرة البطانة الحاكمة لأهل السلطة وحاشيتهم من الابناء والاقرباء والخدم التابعين لهم، وهذه المجموعة الشيطانية جعلت من الشعب الكردي شعبا بلا أرض وبلا وطن، وهذا ما نتج عنه فقدان كامل لانتماء المواطن الكردي الى الوطن الكردستاني، ولهذا لا يستبعد اندلاع انتفاضة شعبية بفعل آهات المستضعفين لتنفجر كالبركان تحت بساط أهل الحكم بفعل غضبة جماهيرية للشعب في يوم ليس ببعيد عن الحضور قد تعرض الاقليم الى انتكاسات خطيرة في المستقبل.

ولهذا نجد ان دعوات البرزاني لاعلان الدولة لا يمكن تفسيرها الا بأنها مجرد أوهام وبأنها دعوة غير منطقية بكل معاني المنطق وهي مطروحة لغرض الاستهلاك السياسي لا اكثر، بسبب غياب البنية التحتية لترسيخ وبقاء الدولة، ومن أهم مقومات هذه البنية هي الأرض، ومن يعيش الواقع في الاقليم يجد ان الشعب الكردستاني لم يبقى لهم أرض ولا وطن، فقد تحكمت مجموعات حزبية وحكومية وتجارية بالمتاجرة الشيطانية منذ سنوات بأرض الكرد سهولا وتلولا وجبالا، وتلاعبت بها ببيعها باسعار خيالية لم تسمع بها لا في امريكا ولا في اوروبا على حساب الشعب، وقد وصلت المتاجرة بها الى حد نهب مساحات شاسعة جدا من الاراضي الزراعية والمراعي الطبيعية وبيعها وبيع التلول والجبال وحتى قممها، وهذه مصيبة المصائب في الواقع السياسي الكردي المؤلم بسبب الفساد الرهيب للطغمة الحاكمة، والذي وصل الى حد المتاجرة بحضور ووجود الشعب الكردستاني في المستقبل على المديين القريب والبعيد.

ولهذا نجد ان سلطة الحزبين الحاكمين في اقليم كردستان برئاسة البرزاني، جعلت من الأجيال التي تعيش في الواقع الراهن بدون مستقبل بسبب فقدان الأرض، وعملت على حرمان الأجيال التي تولد من الأجيال الراهنة من أي أمل للحصول على قطعة أرض او بيت سكن في القادم من السنوات، وبات اقليم كردستان خاليا من أرض يملكها شعب، فيا للخيانة الكبرى التي ترتكبها الطبقة الحاكمة بحق الوطن والشعب وبحق مصادرة المستقبل من حضور ووجود شعب واقليم كردستان.

ولكي يكون الرئيس البارزاني ونائبه كوسرت رسول علي، على بينة بما يحصل وبما يجري في الواقع الكردستاني، ومن باب الإسهام في ضرورة تسليط الاضواء بموضوعية على أوهام البرزاني بخصوص اعلان الدولة الكردية، نجد ضرورة تحديد المسار الموسوم بالوهم السياسي، وهو ينحصر بما يلي:

1.فقدان الاحساس لدى الأجيال الراهنة واللاحقة بضمان الوجود الكياني للأرض والوطن، واسوداد الرؤية للمستقبل وعدم التماس بأي حضور لاي مكون مرتبط بالمستقبل.
2.الاعتداء على حقوق الاجيال الكردستانية الآتية وسرقة ونهب واغتصاب ممتلكاتهم من الأرض والنفط والثروات الطبيعية.
3.توسع وامتداد النزعة الشرانية المطلقة والغريزة الشيطانية للمجموعات الناهبة والسارقة والمتاجرة لحضور ومستقبل كردستان وحرمان الشعب من أي بارقة أمل لتواصل حضوره في عامل الغد.
4.الوعود البراقة التي وعد بها الرئيس البرزاني في مناسبات كثيرة والتي لم يتحقق منها شيئا على أرض الواقع، وهذا ما جعل منه رئيسا غير موثوقا به من قبل الفقراء كرئيس للجميع وكأب حكيم وحنون للجميع بسبب عدم اتصافه بمواصفات الرئيس العادل والحكيم والمستجيب للمحتاجين والباحث عن هموم المواطنين، وهذا ما جعله فاقد المصداقية لدى نسبة كبيرة من المواطنين الكرد وتراجع التاييد له مقارنة بنسبة التصويت 70% التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية.
5.غياب اي برنامج وطني لزرع الثقة والانتماء وتجديد حيوية مكونات المجتمع الكردستاني مبني على اسس وطنية مشتركة.

وفي الختام وباختصار، يبدو ان الرئيس البرزاني فقد مقومات الدعوة بحكمة لاقامة وتاسيس الدولة الكردية، وما يطلقها مجرد أوهام وبالونات لتغطية الفشل الذريع الذي مني به الممثلون الكرد في برلمان العراق وبعض أعضاء الحكومة، ولهذا على البرزاني الإقرار بفشل مسار سنوات الشراكة طوال السنوات السابقة في الحكومة الاتحادية ضرورة سياسية، وهذا لا يعني أن نغض الطرف عن بعض الجوانب الايجابية، والحقيقة الساطعة التي لابد لنا نهمسها قريبا من البرزاني ان الدولة الكردية لا تبنى ولا تقام بمجموعات فاسدة ومارقة خربت كل آفاق المستقبل في حضور الكيان الكردي، ولكنها تبنى على اسس متينة من العدالة الاجتماعية الحقيقية وازالة الفوراق الطبقية واعادة المنهوب والمسروق من الأموال والممتلكات الى خزائن الشعب الكردستاني، وهذا يفرض علينا أن نقول الحقائق بمصداقية لمجابهة ومكافحة الفئات الحاكمة الفاحشة والمستغلة والمتعطشة للثروة والسلطة والتي قضت على اي أمل على المدى المنظور للمستقبل، ونأمل ان يتخطى الاقليم خطوات سريعة ومدروسة لتخطي المرحلة الراهنة بحكمة لصالح الشعب الكردستاني.

[email protected]
22 نيسان 2012