المفكرة مخصصة لتسجيل انطباعات كتاب وملاحظاتهم في ما يمر أمامهم من أحداث عربية وعالمية، أو من مصادفات مع العابر والزائل... يكتب حلقة اليوم عبد القادر الجنابي:

خريف الربيع

كنا نأمل من الربيع أن يسترد فيه كلُّ شيء حركتَه الطبيعية بحيث نعطي فرصةً:
- للشكِّ بأنفسنا، بمشاريعنا، بمجيئنا إلى هذا العالم علنا نفهم لماذا نخون أنفسنا؛
- للتصريح علنا بأننا المسؤولون عن كوارثنا وعورتنا الاجتماعية، وليس الآخر الذي طالما نضع عليه مسؤولية كل ما نخططه تحت جنح الظلام من مشاريع جهنمية؛
- للإيمان القاطع بأن الدين مجرد شأن شخصي، والحياة اليومية حياة دنيوية وهبناها عند الولادة...
كنا نأمل من الربيع أن يخلّص مجتمعاتنا من الخبائث ويترك ما هو طيب فيها... لكنه فعل العكس. أو بالأحرى، كشف عن باطن أمور المجتمعات العربية: سلفية حتى في طريقة ارتدائها ملابس أوروبية حديثة!

محاكاة للروائي الروسي زامياتين: كان هناك، قبل الربيع، سادة وعبيد... وبعد حلوله، لم يعد ثَمَّ سوى عبيد. بينما كنا نحلم بأن يكون جميعنا سادة!

لكن يجب الاعتراف بأن للربيع فضلا هو: إعطاء الشعوب العربية حقَّ انتخاب... جزاريها!

في ظل هذا الربيع اتضح للجميع أن الفكر العربي المتباهي بالليبرالية والحداثة والتنوير مجرد إنشاء تسوده quot;الفوضى الدلاليةquot;... فلم ينفذ quot;خافيةquot; الجماهير ولم يستطع أن يكون جزءا لا يتجزأ من اللاوعي الثقافي (صمّام أمان المجموع)، وإنما بقي سجالا سفسطائيا على سطح الأمور. لذلك لم يكن له أي تأثير ملموس على وعي الناس الذي بقي منجذبا إلى أعراف الثقافة السلفية، وquot;أم الدنياquot; أكبر مثال! وهذا شيء طبيعي لأن الذين ظنوا أنهم يرسون دعائم فكر حر، ليبرالي وحديث بإصدار كتاب اثر كتاب، لم يبدعوا في ما يدعونه شيئا يُذكر. ناهيك عن أن الفكر الأجنبي الذي ينتمون إليه مترجم بالغلط إلى درجة أصبح معها القراء يقرؤون بالغلط. هاكم مثالا صغير، سأعود إليه بالتفصيل في مقال منفصل: صلاح فضل في كتابه quot;البنائيةquot; والمراد quot;البنيويةquot;!!، يترجم كلمة cubist بـquot;كوبيquot; وcubism بـquot;كوبيةquot;!! والمقصود quot;تكعيبيquot; وquot;تكعيبيةquot;!الربيع وحده يعرفأن الظلمة تعلف ضوء القمر!.

من دفتر قديم:

نيسان/ افريل 2003
تسلمت رسالة من صديقي سرمد الطائي يستغرب فيها من قصيدة لي نشرها ّملحق النهار الثقافيquot;(عدد 571/ الأحد 16 شباط 2003)، عنوانها quot;بلدٌ لن أرىquot;، فكتبت له جوابا جاء فيه: quot;عزيزي سرمد شكرا على رسالتك المفعمة بتساؤلات مشروعة. انت لا تضايقني بالمرة. على العكس احترم ما تكتبه ومن هنا اعتبرك صديقا. يحق لك أن تقرأ القصيدة على النحو الذي تراه مناسبا بقدر ما للقصيدة حق بأن تكون بلا معنى أو غائمة. قضية البلد الذي لن أراه، هاك بعض الإشارات: انا وقفت مع الحرب لأن العراق لم يعد له أي حل آخر لكي يسترد سيرورته الطبيعية نحو مستقبل أفضل... لكن هذا لا يعني أن العراق سيصبح بلدا حرا بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ أي تتحول فيه الثقافة إلى ثقافة فعلية لا حزبوية ولا عشائرية، وإنما إلى وعي يتمتع بحريته داخل حكم علماني يستبصر فيه كل فرد مسؤوليته الخاصة. مَن الذي سيحكم العراق المقبل ثقافيا غير... جل دعاة الثقافة المنتشرين في المنفى متقلبين من هذا النظام الى ذاك النظام. نعم هؤلاء هم الذين سيتحكمون بالجو الثقافي في العراق (أعرف أن بعضهم وقف ضد الحرب، والآخر وقف معها إلى يوم قطف الثمار). هذا بلد لا أريد ولن أراه. وثانيا الوضع الثقافي المقبل هو الذي سيمنعني من رؤية البلد الذي أريد أن أراه حرا مستيقظا من كل كوابيس العرب السياسية والثقافية...quot;
وهنا مقطع من مشاركتي في استفتاء أجراه الصديق الشاعر أمجد ناصر لجريدة quot;القدس العربيquot; (أواخر ديسمبر 2002): quot;أن يصبح العراق ديمقراطيا هذا أمر غير منفصل عن إحداث تغييرات شاملة في المنطقة كلها. بأي شكل من الاشكال، الحرب آتية، وسينبثق من quot;رمادهاquot; نظام جديد. وطبيعيا سيحتاج هذا النظام الوليد الى صمام أمان لكي ينمو نموا ديموقراطيا في خدمة العراقيين بكل طوائفهم وبالتالي في خدمة العرب أنفسهم الرازحين تحت نير سلطة سياسية ndash; ثقافية تخشى أي تغيير. ولا صمام أمان من دون عين quot;أجنبيةquot; تراقب الى أي مدى يحقق النظام الجديد أحلام العراقيين ولا يحققها. أحقا سيساهم الأميركيون في بناء حكم ديمقراطي وعادل في العراق؟ فليدخلوا إذا دخول الفاتحين الأحرار... لكنني لست حالما الى هذا الحد. ربما تتقاطع مصالح أميركا ومصالح الشعب العراقي، لكن لا أعتقد الى حد تتحقق فيه الأحلام العراقية. كلا. أنا متشائم من كل شيء فالموت العراقي قائم أصلا ما لم تتغير المنطقة كلها تغيرا جذريا يلقي بمعظم أدبيات هذه المنطقة السياسية والأدبية في مزبلة التاريخ. هذا أمر بعيد. دعني أقول لك الآن إني أشعر بخوف أكثر منطقية من أن يكون الذين يقفون حاليا ضد الحرب، في صلب النظام الجديد، لأسباب جيوسياسة عربية، فهم أعرف الجميع من أين تؤكل الكتف... خوف يجعلني أتساءل: كم من صدام نائم سيستفيق في عراق ما بعد صدام!quot;

الظلمة تعلف ضوء القمر
ايار/ مايو 2012
السنوات مضت وكثير من الحبر المخلوط بالدم سال تحت ألف سبب وسبب.
عندما كان صدام في سدة الحكم، كنّا، على الأقل، نُطمْئن انفُسَنا بحلم ساذج هو: بزوال صدام، ستكون لنا حياة أفضل. اليوم حيث وسخ رعاع الطوائف لطّخ كل مرافق الحياة، ما الذي تبقّى لنأمل بأنه سيكون أفضل، بعد زوال صَّدام الصغير المالكي؟

للقطيعة مع ذهنية الماضي، المناضلة خصوصا،بدايةٌ وما عداها شرحٌ وإسهاب

يرضخ العراق بين اختيارين: ثقافة كانت تتحرك وفقا لبوصلة الديكتاتور، وثقافة مستغلة فوضى سقوط الديكتاتور يحضرها الذين كانوا محرومين من امتيازات الديكتاتور التراتبية...أمس، كان هناك بوليس حزبوي لا يتردد في إلقاء أي فكر له كرامة، في الزنزانات والمقابر الجماعية، واليوم جهاز طائفي يعمل، طابورَ خامسٍ، مبتغيا ثقافة عراقية كومبيوترية تلبي ما يُمبرمج فيها... لكن مشكلة هؤلاء لا تكمن فقط في أنهم جاؤوا متأخرين.. بل أيضا في سلعتهم التي باتت عتيقة في نظر شعب انفلت ومعه انفلتت كل أنماط التفكير. وهنا أمل في هذا الانفلات بالذات لدى الناس؛ انفلات ما إن يستقر الوضع الأمني والاستقرار الاقتصادي، حتى يعود أحد مكونات ثقافة عراقية نقدية. نعم يجب مواجهة الإرهابيين أيا كانوا، لكنها مواجهة تنطوي على نشاط فكري يهدف إلى استئصال، من الذهنية العراقية وبالأخص من ذهنية مثقفي وأدباء هذه الذهنية، كل فكر طائفي حزبوي وعشائري. ليس أمام المثقف الحر، خصوصا إذا رفض المشاركة في خطط حزبوية طائفية ثقافية، سوى التأمل الداخلي، الجولان في خرائب العراق هذا (ماضيه)، متسائلا عن جدوى ما أنجزته ثقافة الذات العراقية خلال الخمسين سنة الأخيرة. فلا حول ولا قوة له، في ساعة المخاض هذه، سوى الكتابة. وهنا بيت قصيد الانفلات: أن يكون للكتابة دورها هي لا الدور الذي كان يعطى لها من الخارج؛ أي أن تختار ذاك المرمى الممنوع لتثبت فيه بالذات سهمها.

هـكــذا

تشربُ الساعةُ الأولى
من جرنِ النّهار
دونَ أن تُحدِثَ أيَّ ضجيجٍ
قد يُوقِظُ ليلةً بكاملها
تَنهَضُ وتسيرُ هكذا
دون أن يكونَ لها ظِلٌّ
طيفُ شُعاعٍ
تنداحُ فوقَ أديمِ كلِّ هذهِ اللحظاتِ
الآتيةْ
من فُجاجِ اللاشيءْ.

لحظاتٌ يضطَلِعُها الوقتُ
هكذا دون أن يَوْجُلَ منها ليلٌ
فجرٌ
أو طيرٌ يزدوجُ
تحت شبكةٍ من الضوءْ. (باريس 1990)