قابلت دكتاتور سوريا الراحل حافظ الاسد، وتحدثت معه لفترة قصيرة في صيف ١٩٦٨ اثناء انعقاد المؤتمر القومي العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي ( طبعة الجناح اليساري للحزب كما كان يعرف في تلك الايام، او بمعنى اخرالجناح السوري الذي انقلب على القيادة القومية او مجموعة عفلق/امين الحافظ/ البزاز. وكان هذا الانقلاب بقيادة مجموعة من الضباط السوريين كصلاح جديد وحافظ الاسد ومعهم من المدنيين الدكاترة نور الدين الأتاسي ويوسف زعين وإبراهيم ماخوس).
وقبل الخوض بتفاصيل لقائي الغريب، والوحيد، مع الاسد الاب لا بد لي من رسم صورة الظروف التي ادت بنا، أنا العالم الجيولوجي العراقي، وهو وزير الدفاع في الجمهورية العربية السورية وقائد القوة الجوية السورية واحد quot;ابطالquot; الهزيمة الماحقة في حزيران ١٩٦٧، ادت بنا ان نتحدث في شؤو ن السياحة في معسكر في ضواحي دمشق وعلى مقربة حميمة من القنيطرة المحتلة والجولان السليب.
اقول: دعنا نعود الى الوراء قليلاً ونذهب الى مدينة بوسطن في الولايات المتحدة قبل سنة تقريباً من صيف المؤتمر في سوريا.
في صيف تلك السنة المشؤومة،١٩٦٧، عقدت منظمة امريكا الشمالية لحزب البعث العربي الاشتراكي مؤتمراً تاريخياً لانتخاب قيادة جديدة وكذلك، وهو الأهم، تحديد موقف تلك المنظمة من شطري الحزب المتنافسين في الوطن العربي،شطر القيادة التاريخية الذي بقى يستحوذ على ولاءمعظم البعثيين خارج سوريا، وشطر القيادة الانقلابية في سوريا الذي كان يبذل جهدا حقيقيا لإغراء التنظيمات الحزبية خارج سوريا بالانضمام الى الانقلابيين في دمشق باعتبارهم يمثلون الجناح الشاب واليساري، حسب التصنيفات المتبعة تلك الايام، عكس quot;اليمينيينquot; و quot; الرجعيين quot; الذين تسلطوا على الحزب منذ تاسيسه والذين لم وواكبوا الحركة الثورية العالمية من فيتنام الى الثورات الطلابية في الغرب.
وعندما اجتمعنا نحن الشباب العرب في بوسطن، وكنا من العراق وسوريا والسعودية وفلسطين، كنا ندرك ان اي قرار يصله الاجتماع سيكون له اثار خطيرة على مستقبل المجتمعين عند عودتهم الى الوطن وكذلك سيكون له بعض الأثر في ترجيح كفة احد الشطرين المتصارعين هناك. وعندما دعت قيادة المنظمة، وكنت احدهم،الى ذلك الاجتماع، لم يكن في استطاعتها ان تعلم النتيجة النهائية للتصويت الذي سيكون سرياً حسب التقليد المتبع في تلك المنظمة.
في أية حال، كانت النتيجة التصويت لصالح القيادة في دمشق وتلى ذلك انتخاب قيادة جديدة للمنظمة في امريكا مكونة من ثلاثة عراقيين، احدهم كاتب هذه السطور، وسوري وسعودي. وبعد إبلاغ quot; القيادة القوميةquot; في دمشق بهذا القرار، رحب بنا الدكتور نور الدين الأتاسي، الأمين العام للقيادة، ورئيس الدولة السورية آنذاك. وعندما حان وقت تنظيم المؤتمر القومي العاشر دعانا الدكتور الأتاسي الى إرسال ممثلين من المنظمة الى المؤتمر باعتبار المنظمة بمستوى quot;شعبة quot; بالتعبير الحزبي. وباعتباري امين المنظمة وكذلك لأنني كنت قد قررت العودة الى العراق اثر انتهاء دراستي تم ترشيحي ورفيق اخر من العراق لتمثيل المنظمة في ذلك المؤتمر.
وهكذا وجدت نفسي ورفيقي العراقي الاثوري في عاصمة quot;الثورة العربية التقدميةquot; ضيوفا على مكتب العلاقات الخارجية في القيادة القومية.وبعد زيارة قصيرة مع مدير المكتب اخبرنا الاخير باسم الفندق الذي سننزل فيه لبضعة ايام قبل انعقاد المؤتمر كما اخبرنا بجدول لقاءات لنا مع مسؤولين كبار في الحزب والدولة وذلك حسب طلبنا ولرغبتنا الاطلاع عن تطورات الثورة في القطر السوري بعيدا عن اجواء السرد الرسمي وعن الاعلام الثوري. وفعلا التقينا بعدد من المسؤولين الخطيرين في الايام التالية، ولكن قبل ذكر فحوى تلك اللقاءات من المفيد ان نذكر بعض الامور التي لاحظناها في دمشق تلك الايام.
ومن البدء لا بد ان اذكر اننا بعد ان تركنا مقر القيادة اقترب منا رجل يرتدي الملابس التقليدية لسكان الأرياف السورية وسالنا ان نساعده في عرض شكواه على quot;المسؤولينquot;. وعند سؤاله عن طبيعة شكواه عرض علينا سلسلة طويلة من التصرفات المشينة للعناصر الحزبية في منطقته. واختتم كلامه بالدعاء لله ان ينزل عقابه العادل بأولئك المسؤولين، ثم طلب منا ان نساعده للوصول الى quot; المسؤول المناسبquot; الذي سياعقب المخلين ويرجع الامور الى نصابها. ولم يكن في وسعنا سوى أخباره عن مكان القيادة ليوصل رسالته.
وأثناء ذهابها الى الفندق الموعود وجدنا انفسنا نتساءل عن مدى الولاء الثوري للطبقات الكادحة و عن مدى الانضباط الثوري الحزبي في الدولة التي ترتكز مصداقيتها الثورية على تمثيلها لمصالح الطبقات الكادحة والتي يغفر لها البعض، ونحن كنا من ضمنهم، هزيمتها المشينة في حرب حزيران لسبب واحد وهو كلامها المكرر ووعودها بخوض حربا شعبية تحشد فيها قوى الشعب ضد العدو الصهيوني بعيدا عن الحروب، والهزائم، التقليدية للجيوش النظامية العربية.
وفي الفندق القديم، والملئ بالأقذار وحشرات اسرة النوم، وجدنا صاحبه يترحم على العصر الذهبي للبلاد ويعني بذلك السلطنة العثمانية، رغم ان عمر الرجل لم يتجاوز الخمسين اي انه كان طفلا عند افول تلك السلطنة. ولم يكتفي بذلك الحنين لذلك الماضي السحيق بل لم يتورع، وهو وفندقه الخيار الرسمي للسلطة الاشتراكية، بان يخبرنا ان دولة الحزب لا تمثل الشعب المتدين الذي، في قرارة نفسه، يتمنى العودة للخلافة في الآستانة بعيدا عن الكفر والإلحاد. ورغم اننا في تلك الايام لم نتحدث كثيراً عن الانقسامات الطائفية ولم نركز على الطبيعة الطائفية للنظام السوري الا اننا لم نتمالك الاستغراب، فيما بيننا، لذلك التناقض الواضح بين الدعاية الرسمية وبين التفكير الحقيقي للكثير من افراد الشعب. وفعلا واثر احتككاكنا الحميم مع الكثير من السوريين، ومن ضمنهم العديد من الحزبيين البعثيين، قبل وخلال وبعد انعقادالمؤتمر، تعمقت لدينا القناعة ان الفجوة بين الاعلام الرسمي وبين الشعب أوسع بكثير مما كان تصورنا.
وعلى سبيل المثال زرنا قائد القوات السورية مصطفى طلاس في مكتبه الفخم والمطرز على الاسلوب الدمشقي الاصيل، ووجدناه بملابسه العسكرية الأنيقة واسلوبه السلس البعيد عن المفردات الحزبية التقليدية يخاطبنا وكأننا اصدقائه الحميمين ويشرح لنا تفاصيل معركة حزيران والخطط المستقبلية للحرب الشعبية ( وهو مؤلف كتاب الحرب الشعبية الذي قرأناه بشغف قبل ذلك ) ومدى تاثره بأساليب الجنرال جياب الفيتنامي في حربه مع الأمريكان... وقارنا كذلك مع الواقع الملموس الذي بدا يتضح لنا شيئا فشئ...وزإد اقتناعنا بان زعماء البعث والدولة السورية في تلك الايام كانوا يعيشون في اوهام لا علاقة لها بالحقيقة على الارض، عندما اخذنا العماد طلاس ليرينا الجبهة مع العدو وتحدث لنا بإسهاب عن quot;الانتصاراتquot; التي حققتها القوات السورية وعن الخطط المرتقبة للقيام بحرب شعبية شاملة تسترجع quot; قريبا ان شاء الله quot; الارض السليبة...وكل ذلك ونحن، وهو، على مسافة كيلومترات معدودة من العلم الاسرائيلي المرفرفة على هضبة الجولان التي رأيناها بالعين المجردة بعد ايام معدودة من ذلك اللقاء..ولست ادري حتى الان ان كان طلاس ذلك اليوم مقتنعا بما يقوله ام كان يردد الكلام المطلوب من مسؤول في موقعه الحساس.
اما يوسف زعين رئيس الوزراء الذي استقبلنا في مكتبه في اليوم التالي فقد وجدناه إنسانا من طراز اخر على الاطلاق. فإذ كان طلاس بشوشا أنيقا بزيه العسكري الرسمي، كان زعين متجهما ( وقد قيل لنا فيما بعد ان تجهمه هذا وجديته في الحديث قد جاء من اصله العراقي، وبالطبع جاء هذا الكلام من احد رفاقه السوريين ) يرتدي الخاكي اللارسمي، وهو طبيب في الأساس، ويحتفظ بسرير صغير في مكتبه قيل لنا انه ينام فيه لأيام او اسابيع اثناء الأزمات. وكان جل حديثه عن المشاريع الكبرى التي يخطط لها رغم ضعف الإمكانيات المادية المتوفرة، وكذلك عن خطط quot; تثوير quot; المجتمع في طريقه الى الاشتراكية الحقيقية ( اي لا العفلقية /البيطارية ). واسهب في شرح كيفية تطبيق الماركسية العلمية في بلاد العالم الثالث مثل سوريا. والواقع انني شردت اثناء حديثه الطويل الذي استغرق ساعات وحاولت ان اتصور امكانية بناء جنة ماركسية في بلاد ليس فيها الا عدد يسير من الصناعات والعمال.. ولكنها كانت ايام فيتنام والماوية والجبهات الفلسطينية الماركسية والمد الطلابي اليساري في اوربا وامريكا.
بعد ايام انتقلنا الى المؤتمر الذي عقد في قاعدة عسكرية بالقرب من العاصمة وعلى بعد بسيط من الجولان، وهناك تم توزيع الرفاق على الثكنات فوجدنا انفسنا أنا ورفيقي العراقي مع خليط من الشباب من مختلف الأقطار في ثكنة كبيرة احتوت على ما يقرب من الخمسين فردا. وهنا زاد إحساسنا بالترتيب الطبقي في هذا الحزب الاشتراكي. فان كان الفندق الدمشقي من الدرجة العاشرة، وفي القذارة من الدرجة الاولى، فان التوزيع الطبقي داخل المؤتمر كان حسب درجة القرب من مركز القرار، بمعنى ان مندوبو المنظمات الحزبية من افريقيا وامريكا وأوروبا والجزيرة العربية وضعوا في ثكنات الجنود، بينما سكن مندوبو الأقطار القريبة من سوريا كالعراق والأردن في اماكن سكن مخصصة لضباط الصف والضباط صغار الرتبة. اما الصفوة السورية فلم نعلم اين كانوا. على أية حال اشتركنا جميعاً بكوننا سجناء القاعدة العسكرية ولم يسمح لأي كان ان يغادر تلك القاعدة ولاي سبب كان. ورغم هذا وجدت نفسي مرتاحا لاول مرة منذ مجيئي للبلد، وذلك لسببين : الاول ان الثكنات كانت أنظف بكثير من الفندق والمدينة، والثاني ان تواجدنا في ثكنة واحدة أعطانا الفرصة للتعرف على الكثير من الشباب المتحمس بل الثوري من مختلف البلاد مما سمح لي ان أبدا صداقات دامت لفترة رغم انقطاع الاتصال للظروف السائدة في البلاد العربية تلك الايام ولعدم توفر وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت.
وبدا المؤتمر بتعريف الحضور بالأسماء الحركية ( عدا طبعا اعضاء القيادتين القطرية والقومية ) فكان تعريفي مثلا بأبو راتب. ثم تلى ذلك تقرير للامين العام للقيادة القومية نور الدين الأتاسي وكنا كلنا نعلم ان بدء سياق المؤتمر بتقرير الأتاسي لم يكن سوى مجرد قضية بروتوكولية وان التقارير المهمة ستاتي وهي لصلاح جديد الأمين العام المساعد وفي نفس الوقت، وهو الأهم، امين القيادة القطرية والرجل القوي في النظام، يتلوه تقرير وزير الدفاع آنذاك حافظ الاسد. والجدير بالملاحظة ان اسلوب التخفي هذا، اي استخدام واجهة مثل الأتاسي لإخفاء مركز السلطة الحقيقية، قد استعمل في ما بعد من قبل صدام بمهارة فائقة عندما تخفى وراء البكر في الدولة والعيسمي في الحزب، ونجح بذلك ولو لفترة قصيرة ان يعزي النجاح اليه والاخفاق الى quot; العقلية العشائرية quot; للبكر، بينما قدم نفسه باعتباره المخطط التقدمي والزاهد في المظاهر الرسمية للسلطة. وقد انطلت هذه التمثيلية السمجة على الكثيرين خلال السبعينات من القرن الماضي ومن ضمنهم كتاب quot; تقدمييين quot; ورؤساء دول.
ولا اتذكر في الواقع شيئا من خطبة الأتاسي سوى وجهه المتازم الشبيه بوجها رفيقيه زعين و جديد، بالعكس تماماً من بشاشة الاسد وطلاس وماخوس و ابتساماتهم العديدة. ولا ادري طبيعة العلاقات بين مثل هؤلاء القادة، وكيف يوزعون الأدوار بينهم وكيف يفسرون لأنفسهم الفروق بين مواقعهم الرسمية ومواقعهم الفعلية، ولكن مما لا شك فيه ان المؤتمرين كانوا جميعا يعلمون خير العلم الترتيب الهرمي الحقيقي في الحزب والدولة، وان الجميع كانوا يعلمون بان الشخصين الذين يجب مراقبتهم عن كثب، والذي يتحتم على الحزبي السوري على الأخص تقدير رجحان كفيتهما في اي وقت من الأوقات، كانا جديد والأسد، والبقية كانوا كالكومبارس في مسرحية إغريقية قديمة. فان كنت سورياً وتريد ان تستشرف المستقبل السياسي ( اي المستقبل الوجودي في الدولة الشمولية )، لا بد لك ان تقوي كل قابلياتك التحسسية والا وجدت نفسك مصطفاً وراء الفريق الخاسر بما تعنيه هذه الحالة من مستقبل حياتك الحزبية بل مستقبل حياتك ككل و في كثير من الاحيان مستقبل أسرتك وربما معارفك. ونتذكر مصير جديد الذي قضى بقية حياته بعد انقلاب حركة الاسد quot; التصحيحية quot; في ١٩٧٠ في السجن، وكان مصير الدكاترة الثلاث الذين راهنوا على جديد بين سجن ونفي، بينما اصبح طلاس، الذي احسن الرهان، وزيراً للدفاع عند الاسد.
ونعود الى المؤتمر. فبعد الاجتماع العام، بدات سلسلة من اجتماعات اللجان المتخصصة وكان بعضها مفتوحا لمن يرغب، مثل اللجان الاقتصادية والتنظيمية، وكان البعض الاخر كاللجنة الأمنية مغلقاً، على الاقل علينا نحن الصغار حزبيا. وبالطبع فان هذه الاجتماعات لكونها سرية كانت هي المرغوبة اكثر بكثير من الاولى، وقد بدأت التكهنات بما يدور خلالها والإشاعات الناتجة عن ذلك تتكثف ساعة بعد ساعة، وكنت ترى الرفاق يحومون حول كل من يترك اجتماع تلك اللجان ولو لفترة قصيرة، علهم يعرفون كيف تترتب الامور.
بعد ساعات من بدء الاجتماعات المغلقة، وكنا نتجول في فناء الثكنات المفتوح ونشرب الشاي، لاحظت انا ابراهيم ماخوس وزير الخارجية الشاب والملئ بالحيوية والنشاط يتمشى بمفرده، فانتهزت الفرصة وذهبت اليه وعرفت نفسي فرحب بي وبدأنا بالحديث، او بالأحرى بدا هو بالحديث ولم يتوقف لساعة او اكثر، ولم يكترث حين راينا quot;الكبارquot; يعودون الى اجتماعاتهم بل استمر في الحديث متدفقاً وكانه كان متعطشاً لان يعطي انطباعاته وأفكاره لأي شخص من خارج الحلقة الضيقة التي تدور فيها القيادة. او ربما كان يؤجل او يتجاهل القرارات المصيرية المترتبة عن الاجتماعات القيادية تلك والصراعات التي تجري خلالها. لا ادري السبب في إضاعة الوقت مع شخص مثلي لا يحل ولا يربط.
ما اتذكره من حديث ماخوس ذلك اليوم المشمس والحار ما قاله عن زيارة قام بها هو و يوسف زعين الى هانوي في فيتنام الشمالية ومقابلتهم مع هو شي منه و الجنرال جياب. وبالأخص انه ذكر عن جياب قوله انه على القيادة السورية وهي تحاول تثبيت سلطتها الثورية ان لا تهتم كثيرا لما يقوله أعدائها، او حتى أصدقائها، بل ان تمضي قدما في السيطرة على كل مراكز القوى في البلاد وخلق أسس فولاذية للدولة والحزب والأمن لا يمكن اختراقها من اي عدو، خارجيا كان ام داخليا. وخلص الى القول ان لا معنى لأي امر اخر ان لم تستتب السلطة بيد القيادة الثورية اولا. وكان انطباعي عن هذا الكلام ان ماخوس كان يحاول إقناعي واقناع نفسه ربما، ان النتيجة المرجوة، وهي ديمومة الحكم البعثي الثوري الماركسي، هي اهم بكثير من الأساليب المتبعة للوصول الى تلك النتيجة، بل اهم بكثير من انتكاسة الهزيمة العسكرية في الجولان. وربما أيضاً، ان ذلك كان نوع من تبرير موقف جناح جديد، ومن ضمنه ماخوس بالطبع، اتجاه الجناح الاخر في السلطة، والذي كان يتجمع وراء الاسد.
وافقنا في اليوم التالي لنجد الجو العام للمؤتمر، والثكنات، متأزما، والدبابات تحيطنا، والرفاق في حلقات صغيرة توشوش مع بعضها، ونوع من الحمى تجتاح الجميع. الإشاعات تسري بسرعة هائلة : هناك محاولة انقلاب تقوم بها وحدات مدرعة احتجاجا عما يجري في الاجتماعات السرية...هناك انقلاب مضاد للحزب وسيجري اعتقال جميع الحضور وستعود مجموعة امين الحافظ والضباط الموالين للقيادة المخلوعة...مجموعة صغيرة من ضباط الصف المتذمرين من قلة الرواتب وارتفاع تكاليف المعيشة قررت استغلال فرصة وجود القيادة بأكملها في محل واحد قررت فرض شروطها بالطريقة الوحيدة التي يفهمها عسكريوا ذاك الزمن. العدو الاسرائيلي يستغل فرصة الاجتماع لكي يتحرك الى دمشق ويحتلها بضربة خاطفة، والقوات التي تطوقنا تشكل الدفاع الاخير عن القيادة..وهكذا: إشاعة بعد اخرى، بعضها معقول ومعظمها يناقض بعضه.
وبقينا في حيرة من أمرنا نتلقف الاخبار ونحاول تقييمها واستشراف وجوه quot; الكبار quot; لمعرفة حقيقة الامور. وبعد ساعات خرج حافظ الاسد الى الفناء الواسع متمشياً بهدوء وبخطى بطيئة وكانه في نزهة، واعترف هنا انه بوجوده معنا وبالابتسامة الظاهرة على وجهه، بدد بعض الشئ القلق العارم الذي اعتراني، وانا اجد نفسي وسط صراع له أبعاد سياسية سلطوية لا افهمها ولا حول لي والكثير من المتواجدين معي هناك عليها ولا سلطان.
بعد برهة قصيرة تحرك الفريق الاسد متجها نحوي وكنت واقفا مع اثنين آخرين مستظلين شجرة من حر شمس قائظة ووقف معنا مبادرا بالسلام. وهنا اغتنمت الفرصة وسألته عما يحدث فتنحنح قليلا ثم أجاب : ما في شي...مجرد سوء تفاهم..سحابة وتمر...وكان من الواضح انه لا ينوي الخوض في أية تفاصيل من هذا القبيل. وفعلا غير الموضوع بالسؤال مني عن سبب وجودي في الاجتماع. وهكذا وجدت نفسي ادردش مع وزير الدفاع السوري والدكتاتور المقبل وأب لدكتاتور اخر بالوراثة.
وفي الواقع أعجبني هدوءه وابتسامته الخفيفة التي لم تفارق وجهه وثقته الواضحة بنفسه...وبينما كان يسألني عن نفسي كنت انا افكر كيف أعود الى سؤاله عن موضوع الساعة والأزمة التي نحن فيها، ولكنه، وكانه قرا ذلك في وجهي، بادرني بالسؤال عن الولايات المتحدة وعن الشعب الامريكي، وعندما قلت له ان معرفتي بالأمريكان لم تتجاوز بضعة سنين وأنها مجرد انطباعات طالب دراسات عليا فلا يمكن الوثوق اليها بشكل عام، قاطعني بالقول انه مهتم فعلا بتلك الانطباعات لكي يقارنها بما يقراه من تقارير ومايسمعه من الاخرين. وذكر انه لا يسال عن امور سياسية بل عن المجتمع الامريكي والشعب هناك : كيف يفكرون، وما الذي يهتمون به، وكيف نستطيع جذبهم لزيارة سوريا كسواح. وهنا توقف قليلا ثم انطلق في شرح طويل للاقتصاد السوري وإمكانية النهوض به في ظل امكانيات مادية قليلة نسبيا. وقال ان السياحة، حسب تصوره، ستكون في المستقبل العماد الاساسي للاقتصاد وان وجود اثار ساحقة في القدم مثل تدمر وغيرها ستجذب السواح الأوروبيين والأمريكان بإعداد هائلة.
وكان تحليله للاقتصاد واستغلال الموارد السياحية والطبيعية ينطلق من مفهوم راسمالي بحت لا علاقة له بالشعارات الاشتراكية والماركسية التي كانت تتردد على لسان معظم رفاقه ومعظم محتوى المؤتمر الذي كنا فيه، بل كانت اللغة السائدة في الدول العربية quot; الثورية quot; وفي المحيط الثقافي العربي بصورة عامة. ومن هناك كانت المفاجئة ان مسوؤلا كبيرا في بلد ثوري يسير نحو الاشتراكية العلمية، يتحدث بمفردات رأسمالية بحتة.
واصبحنا اليوم التالي على انسحاب الدبابات وعودة جو المؤتمر الى وضعه السابق وتراجع الأزمة الى وراء الكواليس، ولم يبقى من آثارها سوى محاولات توفيقية واضحة بين الاسد و جديد، محاولات انتهت بعناق الرجلين امام المؤتمرين...عناق اعقبه تصفيق حاد للحضور وانشراح طغى على الجميع...
ولم ندري في غمرة ذلك الانشراح ان القضية كانت مجرد تأجيل لما كان محتماً. فبعد فترة قصيرة احتدم الصراع بين صلاح جديد وعقائديته الماركسية والمجموعة التي اختارت طريقه وبين الاسد الذي quot; صحح quot; الامور على طريقته وكانت بداية لحقبة سورية تعيش الان ساعات احتضارها.
التعليقات