مرت علي مصر منذ خلع مبارك العديد من المواقع المثيرة للجدل،والتي حظيت باهتمام إعلامي غير مسبوق، فبعد موقعة خلع مبارك جاءت موقعة الجمل،ثم أعقبتها موقعة الجلابية، فموقعة العباسية وشارع محمد محمود، وأخيرا موقعةquot; بهدلةquot; اللغة العربية التي شهدناها وشهدها العالم أجمع في ساحة محكمة مبارك.فالقاضي أحمد رفعت الذي لادخل لنا بحكمه القضائي، نقدر مهنته كل التقديرـ أما مهنيته التي فتحت كل أبواب الجدل القانوني حول أحكامه، فهي متروكة لخبراء وجهابذة القانون المصري لتداولها.

لكن إحساساً آخر بالمرارة الشديدة فاجأنا به المستشار الجليل، صاحب المكانة الرفيعة، والخبرة القضائية الطويلة، وهو يتلو بيان الحكم،فالرجل لم يكن باستطاعته قراءة بضعة سطور باللغة العربية السليمة أو حتي نصف السليمة في ذلك اليوم المشهود، الذي يعرف فيه قبل غيره مدي أهميته، فالعالم كله يتابع المشهد ويحبس الأنفاس ويرصد كل كلمة وحركة في القاعة، لذلك توجب علي القاضي أهمية المحافظة علي كل حرف وكلمة ونص فما سينطق به القاضي، سيبقي محفوراً محفوظاً في ذاكرة المصريين لسنوات طويلة قادمة، عندئذ توقع الجميع أن تكون البلاغة وحسن الصياغة، وترتيب منطوق الكلمات سيكون من أولويات القاضي، فقوة اللغة وسحر بيانها سيعززان ويقويان من لغة القانون في ذلك اليوم المشهود. خاصة وأن اللغة العربية تنفرد بالذات عن باقي اللغات الأخري، بأنها لغة موسيقية يصبح لها شأن مؤثر وفاعل عندما يتم النطق بها بشكل صحيح، وهي تعطي للمتحدث بها أناقة ومهابة عندما يتحدثها بشكل صحيح، وتصبح نشازاً عندما تصلك ركيكة هزيلة فتزيل المهابة عن الناطق بها،لاسيما إذا كان شخصاً يفترض مهابته. فالعرب الأوائل تكلموا العربية وفق السليقة التي وهبهم الله إياها، ولم يكن النحو معروفا من قبل فأفاضت قريحتهم بالعجب العجاب من بدائع تلك اللغة،فكانوا يؤدون المعني بأقل الكلام ناهيك عن العذوبة في السمع، والفصاحة في حسن الحديث والكلام.

إذن مالذي يمكن أن تفعله الآن وانت في حضرة قاض جليل، وعالم عليم، اتشح وهو جالس علي المنصة بأوشحة العدالة الخضراء، وتزين بأفخم الثياب مما أضاف عليه الكثير من الجلال والوقار، وأصبحت رهبة العدالة ومخافتها أمر واقع مع بداية حديثه قبل منطوق الحكم،وهو ينبه الحضور إلى أن أي همسة أو حركة.. فإنه سيعتذر!! اوهكذا قالها فإننا سنعتذر !! ولم يفهم الناس تلك الصيغة واجبة الاعتذار عن ماذا ؟!! ولماذا؟!! لكنها كانت بداية quot;بهدلةquot; اللغة العربية. عندئذ صمتت القاعة صمت القبور الذي لم يقطعه إلا صوته مرة أخري وهو يتلو بيان الحكم،وإذا بسيل من الأخطاء النحوية واللغوية يبدأ القاضي الجليل بها قراءته، فقد رفع الفاعل ونصب المفعول ونصب المجرور،ولخبط كل قواعد اللغة العربية بعضها في بعض، وبدأ النص يضعف ويهتز بين شفتيه، وترنحت موسيقي الكلام، وبدأت الركاكة تحل محل الرصانة، وما أن انتهي من كلمته وأحكامه حتي اهتزت القاعة بأصوات الموجودين في تلقائية وفي نفس واحد تقول quot;الشعب يريد تطهير القضاءquot;.

بعد ذلك الحدث بدأ الناس يتساءلون كيف لرجل بهذا الحجم يلجأ إلى كتاب الله في أحكامه قراءة وتلاوة يخطئ في تلاوة الأيات الكريمة التي استشهد بها في حكمه؟ ماذا يعني هذا ؟وهل كل القضاة لا يحسنون اللغة العربية؟ ولماذا لا يتعلمون أصولها الصحيحة؟ ألا تعرض الأخطاء النحوية الحكم للارتباك ؟ لأن رفع المنصوب يحول الفاعل إلى مفعول به وكذلك نصب الفاعل قد يحوله إلى مفعول به أما رفع أو نصب المجرور فهو لا محل له من الإعراب..أليس من الواجب ألا يتقن القاضي اللغة العربية وقواعدها فحسب بل يجب أن يكون عالماً بها،فالمفتي لا يحق له أن يفتي إلا إذا اتقن اللغة العربية وقواعدها.

إن خطورة هذه المسألة هي إثبات لا لبس فيه ولا التباس في إخفاق المدارسِ إخفاقاً ذريعًا في تعليم العربية، فماذا يعني أن تدرس اثني عشر عاماً اللغة العربية في المدارس وعندما تتخرج تصبح غير قادر على التحدث بلغة سليمة، أوتسطير ديباجة بلغة راقية بريئة من أخطاء مؤلمة.أن ضعف اللغة يضعف القومية،واللغة التي يعتمد عليها الناس في ثقافتهم تكّون ذاكرتهم، وهذا ما يبرر تعصب الأوروبيين للغتهم، فالشعب الألماني علي سبيل المثال شديد الاعتزاز بلغته حتي انك قلما تجد لغة إرشادية في الشوارع بغير اللغة الألمانية!
للأسف الشديد كانت مصر في عهود الحكم الغير مسؤول تفرض أسوار من الحصانة علي كل الأجهزة السلطوية في الدولة فانت لا تستطيع انتقاد أي مسؤول أمامك عندما يخطئ ويتحدث بشكل ركيك،لهذا كانت النخبة المتعلمة من المستشارين والقضاة والدكاترة والأساتذة والجنرالات الذين يحملون عدة كيلو جرامات من النياشين التي تزين ملابسهم العسكرية بل والإعلامين يخطئون وهم يتحدثون في برامج التليفزيون المختلفة أو في الندوات والمناسبات الرسمية وسط استحسان المشاهدين لآن لغة النقد كانت غائبة، اما الآن فمصر تغيرت ومازالت تتغير!

[email protected]