حكمت الأقدار السياسيّة في تونس الحديثة أن يجلس على كرسيّ الرئاسة quot;الحبيب بورقيبةquot; بشرعية نضاليّة مزعومة بالغ في توظيفها وتزيينها ببعض الدموع. ثمّ جاءquot;بن عليquot; من حيث لم يتوقّعه أحد. وقام-تسنده عصابته التي ينعم بعض أفرادها بالحريّة إلى الآن، بانقلاب أبيض/ أحمر انتهى بنفسجياّ. وبرحيله اللّغز، اعتلى quot;فؤاد المبزّعquot; عرش الرئاسة وأصبح أوّل رئيس رغم أنفه في تونس، تحت شعار quot;التوافقquot; الذي غاب فيه حكم الشعب. وأخيرا نزل quot;المنصف المرزوقيquot; رئيسا مؤقتا في قصر quot;قرطاجquot; بأكبر البواقي، وبالتوافق المبرمج عن بعد، الذي غاب عنه رأي الشعب الثائر على الظلم، وعوضه صدى تصفيق النواب وصراخهمquot; إجماع... إجماعquot; محافظة على سنّة سياسيّة عربية أصيلة لا أمل في زوالها قريبا!!
وقد حدّد القانون المنظّم للسلطات دور مؤسسة الرئاسة ورئاسة الوزراء والمجلس التأسيسيّ بنصّ قلّص صلاحيات رئيس الجمهوريّة ووسّع صلاحيات رئيس الوزراء. ولئن كان الفصل بين السلط واضحا، فإنّ الممارسة كشفت عن تصادم في وجهات النظر وتداخل المهام، ما أوحى أحيانا بأنّ المؤسسات الثلاث لا تعمل يتناغم.
أوّل الملفات الخلافيّة التي أشّرت لاندلاع النار في هشيم التوافق المزعوم، ما أصبح يعرف في تونس بقضيّة quot;البغدادي المحموديquot;. فقد أعلن رئيس الجمهوريّة الذي يستند إلى قيم حقوقية تربى عليها ودافع عنها طويلا ولا يريد التنكّر لها أو التراجع عنها، أنّه لن يوقّع على أمر تسليم quot;البغدادي المحموديquot; إلى ليبيا ما لم تتوفّر أركان المحاكمة العادلة له. ومعلوم أنّ الرئيس يملك هذه الصلاحيّة حسب القانون المنظم للسلطات الذي أقرّه المجلس التأسيسيّ. لكن فاجأ السيّد quot;حمّادي الجباليquot; رئيس الوزراء الجميع عندما أعلن أنّ ملفّ quot;البغدادي المحموديquot; قد استوفى كلّ شروطه القانونيّة، وأنّ تسليمه بات مسألة وقت. وقد دعّمت تصريحات وزير العدل كلام رئيس الوزراء.
وإزاء هذا التضارب في المواقف، انتبه المتابع إلى غياب التنسيق بين الرئاستيْن ففي حين تعلن رئاسة الوزراء قرب تسليم quot;المحموديquot; تردّ الرئاسة بأن السيّد quot;المنصف المرزوقيquot; رئيس الجمهوريّة المؤقت لن يمضي على قرار تسليمه. والسؤال مَن له القرار الأخير في هذا الملف؟
إنّ الأوراق التي خطّها المجلس التأسيسيّ تتحدث عن أنّ الأمر من صلاحيات رئيس الجمهورية لكن السيّد رئيس الوزراء التونسي يذهب إلى حدّ الحسم في تسليم رئيس الوزراء الليبي الأسبق حتى وإن لم يوافق الرئيس. وتعليله أنّ عدم تسليمه لدولته التي تطلبه سيعطّل إجراءات المطالبة بالرئيس التونسي السابق الفار إلى السعوديّة.
و لم تسلم العلاقة بين رئاسة الوزراء والمجلس التأسيسيّ من بعض اللّبس. إذ أعلن رئيس الوزراء السيّد quot;حمّادي الجباليquot;أنّه لن يمضي على قرار بترفيع أجور النوّاب لأنّه من غير المعقول تمتيع النائب بزيادة في الأجر، وحرمان بقيّة الموظفين والأجراء منها. وجاء في خطاب رئيس المجلس التأسيسي ما يفيد أنّ الإذن والإمضاء على قرار الزيادة في الأجور ليسا من صلاحيات رئيس الوزراء. فالمجلس التأسيسي هو أكبر سلطة في البلاد لأنّه انتُخِبَ من الشعب. وهو في النهاية سيّد نفسه.
و لعلّ ما أبان عن بداية تصدّع العلاقة بين مؤسسة الرئاسة ورئاسة الوزراء، هو ظهور مقال لمستشار الرئيس يدعو فيه صراحة إلى استقالة الحكومة وتعويضها بحكومةquot;تكنوقراطquot; تنقذ البلاد من الوضع الذي تردّدت فيه. ورغم تقديم هذا المستشار لاستقالته رسميّا، بعد أن راجت أخبار عن إقالته أو إجباره على تقديم الاستقالة، فإن مناداته باستقالة الحكومة اعتُبرت استفزازا، وخطابا مقتطعا من سياقه. فهل يعقل ألا يكون الرئيس على علم بفحوى هذا الخطاب؟ هل كانت مبادرة السيّد المستشار تلقائية، ودون تنسيق مع رئيس الجمهوريّة؟ ما يحيّر فعلا هو أنّه إذا كان السيّد الرئيس على علم فالمصيبة عظيمة وإذا لم يكن على علم فالمصيبة أعظم.
من الأكيد أن البلاد الخارجة للتوّ من رحم الديكتاتورية، مازالت تبحث عن أقوم المسالك لتثبيت الحكم الرشيد. لكنّ ضبط الأمور، والالتزام بالقانون المنظّم للسّلط من شأنهما أن يجعلا مؤسسات السلطة متماسكة تبعث رسائل إيجابية إلى الشعب مفادها أن الحُكْم في أياد لا ترتعش، وقادرة على البناء رغم الصعوبات والعراقيل.


salah_mjaied@yahoo. fr