إنّ ما يحدث في تونس اليوم من تلوّن quot;حربائيّquot; يبعث على الحيرة والاستغراب، ويدعو إلى كشف فئة quot;المتلوّنينquot; الذين كانوا ومازالوا وبالا على الوطن . ويعوّل هؤلاء المهرولون إلى ركاب السلطة على ما يملكونه من وقاحة واستعداد للتصاغر واحتقار الذات، وعلى ذاكرة كثير من التونسيين التي اعتلاها صدأ النسيان السريع.وهم على استعداد دائما لخدمة quot;سيّدquot; جديد بعد أن تعوّدوا على أن يكونوا أذيالا يتمسّحون على الأعتاب، ويستفيدون من كلّ الولائم والموائد.
من المعروف أن quot;بن عليquot; كان في حرب معلنة مع quot;النهضةquot; وحرص على دفن منتسبيها والمتعاطفين معها أحياء بتزكية غربيّة وبمباركة أمريكيّة . وقد جنّد حزبquot;التجمّعquot; في حربه على الإسلاميين، وجعل من رجاله مُخبرين سريين ينقلون يوميّا ما يجري في المساجد، ويفوقون أعوان الأمن في ملاحقة النهضويين. لكن ما أن تغيرت الموازين وحازت quot;النهضةquot; على أكبر نسبة من الأصوات حتى انبرى فريق من quot;التجمعيينquot; القدامى الذي لا يشكّ أحد في إخلاصهم لصانع التغيير، يمجّد quot;النهضةquot; ويتقرّب لها زلفى، علّه يعود إلى واجهة السلطة من جديد دون اكتراث بالألوان والمشارب الأيديولوجيّة.
هل يعقل أن يتحوّل مخبر قضّى سنوات عمره بتلصص على المصلّين، ويتابع حركات بعض الناس إلى تقيّ ورع تكاد جبينه تتشقّق من أثر السجود على الحصر البالية؟؟ هل يمكن أن يصل النفاق إلى حد تحوّل إمام جمعة زكاه الحزب الحاكم السابق ليصعد على المنبر إلى بوق دعاية يسبّ العلمانيين وكفّار الحداثة؟
هؤلاء المتلوّنون هم السوس الذي يصيب صوف هذه البلاد بداء لا يرجى منه شفاء... هؤلاء أشدّ بأسا على البلاد من quot;بن عليquot; بل هم الذين زينوا للرئيس السابق أن يفعل ما فعل بنفاقهم إن كلّ quot;تجمّعيquot; سابق تحوّل إلى quot;نهضويquot; هو أشد كفرا من الشيطان. فبأمثال هؤلاء حكم quot;بن عليquot; وبألسنة هؤلاء تكلّم وبأيديهم التي تعوّدت على التصفيق بمناسبة ودون مناسبة وضرب يمينا وشمالا. وكلّ من انضمّ إلى النهضة بعد أن فازت في الانتخابات يجب أن يعرّى، وأن يصلب على مقصلة الفضح والتشهير
والحقيقة أنّ كثيرا من quot;كوادر النهضةquot; ممن عرفوا الظلم وعانوا طويلا من السجون والمنافي يعرفون جيّدا هؤلاء. ولا شكّ في أنّهم يحتقرونهم ويوظفونهم ظرفيا بعد أن أدركوا ضعفهم واستعدادهم لبيع كلّ شيء من أجل مصالح شخصيّة تُغيَّب فيها مصلحة الوطن.
ولذلك تتعامل quot;النهضةquot; مع quot;التجمّعيينquot; السابقين الذي تقاطروا عليها بطريقتين: البعض تعتبرهم quot;تجمعيين نظيفينquot; وهم الذين انضموا إليها، وقبلوا شروطها، وأعلنوا استعدادهم للقيام بأيّ عمل من أجل التواري والاحتماء بالأقوى والبعض الآخر اعتبرهم من أزلام quot;النظام البائدquot; الذين يجب منعهم من العمل السياسيّ. وإذا كان حلّ حزب quot;التجمعquot; عملا وطنيّا الغاية منه القطع مع الماضي وأساليبه القذرة في الاستغلال والتعذيب عند البعض، فإنّ بعض الأطراف السياسيّة قد رأت فيه مناورة سياسيّة للاستحواذ على خبرة هذا الحزب في تزييف الانتخابات والضرب تحت الحزام.
نعم quot;النهضةquot; حزب قويّ الآن لكنه قويّ بأنصاره وطروحاته، وبما يمكن أن يقدمه للبلاد ولكنه لن يزداد قوة إذا ضم في صفوفه متلونين تسللوا سابقا إلى مقرات التجمع، وقدموا فيها آيات الطاعة والولاء وها هم الآن يعيدون العمل نفسه معquot;شهريارquot; جديد متعطّش للحكم...
ويقتضي الإنصاف احترام كثير من quot;النهضويينquot; الذين قاوموا وتصلبوا وواجهوا quot;بن عليquot; بقناعاتهم الذاتيّة، ورابطوا ولم يفرّطوا. ولكن لا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، احترام المتلوّنيين الذين استيقظوا فجأة ليستعيدوا مشاعرهم الدينية التي تاهت طيلة حكم quot;بن عليquot;وليتصالحوا مع منابعهم الأيديولوجيّة التي فرضت انتهازيتهم أن يدفنوها إلى حين.
ليس أخطر على البلاد، الآن وغدا، من هؤلاء الذين يقايضون غباءهم بذكاء مَنْ لا تسقط ذاكرته مهما تعرّضت للتعنيف وquot;الهرسلةquot;. و يبدو أنّهم يبحثون عن ثقوب يتسللون منها لينفثوا سمّهم في جسد الثورة الجريح، بعد أن فشلوا في دخول التاريخ من أبوابه .