لقد تآلبت على quot;تونسquot; قديما وحديثا عوامل تاريخيّة قاسية قضت بأن يتعاورها طغاة وظالمون استعذبوا رحيقها، واستمرؤوا تسامح أهلها، وطيبتهم الساذجة. وحكمت قوانينها الجائرة بأن ينجم في كلّ عصر من تاريخ هذه البلاد المتطاولة تاريخا رغم ضيق جغرافيتها، quot;ديكتاتورquot;يسرق من عمرها سنينا ويذهب مدحورا ليعقبه آخر. والجامع بين سلسلة الطغاة أنّهم يصلون إلى الكرسيّ مساكين وينتهون عتاة من كبار القتلة والمجرمين.
على أنّ في تونس اليوم الخارجة للتوّ من متاهة حكم quot;بن عليquot;، قالت الصناديق كلمتها. وفازت حركة quot;النهضةquot; بأكبر عدد من المقاعد دون أن تحصل على الأغلبيّة. وهذه الحركة رغم مرور أشهر على توليها رئاسة الحكومة، مازالت تسعى إلى تأهيل نفسها كي تتحوّل إلى حزب حاكم يُمسك بتلابيب أكبر الحقائب الوزارية: quot;الداخليّةquot; والخارجيّةquot; و quot;العدلquot; وquot;التعليمquot; المثقلة بالمشاكل والملفّات . ولا شكّ في أنّ ما تعرّض له زعماء هذه الحركة وأنصارها من ظلم ونفي وقتل، قد ساهم في التأثير على اختيارات الناخبين الفارّين بأصواتهم من جحيم الديكتاتوريّة إلى قادم يحملونه كلّ انتظار اتهم، ويأملون أن يملأ البلاد عدلا بعد أن مُلِئت جَوْرا وفسادا.
لقد وَقَر في عُرْف كثير من سياسييّ أمّة العرب العاطفيّة، أنّ السّجن هو رمز للبطولة والفداء، والمُسْبِغُ الأوحد لِنِعَمِ الشرعيّة النضاليّة على كلّ مَنْ عاش ظلامه. حتّى أنّ لا يُقاس إلّا بعدد سنوات السجن وأيّامه المظلمة. وتأبى الذاكرة الشرقية إلا أن ترسم حكايات وأساطير عن هؤلاء الأبطال القادمين من السجون ليملأوا الأرض عدلا بعد فسادها. وكَمْ خاب أمل كثير من العاطفيين عندما رأوا سجين الأمس يتحوّل بسرعة إلى سجان الحاضر والمستقبل. لكن عبر التاريخ لا تستقرّ وشما إلا في ذاكرة أقليّة
في البدء، من الضروريّ الإشارة، في هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به البلاد، إلى أنّ النوايا الطيبة وحدها لا تصنع اقتصادا قويّا، ولا تبدّد كلّ المخاوف التي تحوّلت إلى خبز يوميّ مرّ عند المواطن. نَعَمْ حركة quot;النهضةquot; تعرّضت إلى تعذيب ممنهج ، ومحاولة اجتثاث قادها نظام quot;بن عليquot;. لكنّ الشباب الذي خرجوا ثائرين لا يعرفون عن هذه المعاناة إلا النزر القليل. وهي عندهم ليست أكثر من قصّة تاريخيّة رأوا بعضا من فصولها في الكتب التي درسوها. وهؤلاء الشباب يريدون أن يبنوا حاضرهم ومستقبلهم ببرامح واقعيّة بعد أن سئموا البكاء على الأطلال ، والتذكير بسنوات الجمر والمعاناة. ولا يعنيهم أن يكون عدد سنوات السجن عاملا محدّدا في توزيع quot;الغنائمquot; الوزاريّة.
. إنّ تاريخ الحركة المليء بالمآسي والسجون لا يجب أن يتحوّل إلى برنامج عمل للحكومة. . تلك مرحلة تاريخية مرّت بأحزانها، وصفحة طويت. وها هو التاريخ يمنح مَنْ عانى فرصة أن يرفع شعارquot; لا ظلم بعد اليومquot;، وأن يحوّله إلى حقيقة يكفلها الدستور المُتنازًع على فصوله.
وإذا كانت عِبَر التاريخ تؤكّد أنّه ما مِنْ سجين وصل إلى السلطة إلّا وتحوّل، في مرحلة من المراحل، إلى سجّان يأتي ما كان يَنْهىَ عنه ، فإنّ على quot;النهضةquot;-باعتبارها حزبا حاكما- أن تسفّه هذه القاعدة التاريخيّة حتى تجنّب البلاد والعباد مرارة الدوران في حلقة مفرغة شعارها التناوب على الإقصاء.