إنّ الإسهال الحزبي على أشدّه هذه الأيام في تونس المُحرَّرَة من نظام الحزب الواحد، والزعيم الأوحد. ويبدو أنّ عدد الأحزاب سيتجاوز، مع نهاية هذه السنة، عدد الأحزاب في عديد الدول الأوروبيّة مجتمعة!!. وتحوّل إنشاء الأحزاب إلى سباق محموم للفوز بمكان في صفحات كتابquot;غينيتسquot; للأرقام القياسيّة. إذ بعد أن احتفل العرب طويلا بإنتاج أكبر طبقquot;تبّولةquot; في العالم، وبأكبر طبقquot;كسكسيّquot; جلب لهم احترام الدول الغربيّة ومكّنهم من تحطيم كلّ الأرقام القياسيّة في إعداد الأطباق الشهيّة باستحقاق!!، جاء دور سباق الأحزاب بعد سنوات عجاف سيطر عليها حزب واحد ذو رأس أوحد يعنّ له أن يصدر مواقف متعدّدة يسبّح بحمدها الأنصار، ويهضمها بصمت ووجل، بعض الأخيار.
إنّ عمليّة حسابيّة بسيطة تكشف أنّ تونس حققت إنجازا عظيما لم تسبقها إليه دول عربيّة وبعض الدول الغربيّة. وسيسعد بلا شكّ هواة الإحصائيات التّي تساقطت علينا زمن النظام السابق بمناسبة وبدونها، بشعار مُغْر quot;حزب لكلّ ألف مواطنquot;. وفي انتظار تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأحزاب، والقطع مع سياسة الاستيراد والاقتراض، يمضي رجال السياسية في تونس في تقديم برامجهم لناخب أصيب بعمى الألوان بعد أن تعوّد على لون الدّم يغطّي كلّ الصناديق. وإنّ ظهور هذا الكمّ الهائل من أسماء الأحزاب يبشّر التونسيّ في قادم الأيّام quot;بتُخمة حزبيّةquot; جاءت لتعوّض التصحّر الحزبي المفروض، والجوع السياسي الذي عرفته البلاد على مدى 23 سنة من حكم الجنرال.
ولئن كان من السابق لأوانه تبيّن إن كانت المعدة السياسيّة قادرة على هضم هذه الأطباق الحزبية التي تعدّدت ألوانها وتنوّعت بهاراتها، فإنّه مِنْ غير المقبول أن يصل السباق على تكوين الأحزاب السياسيّة إلى حدّ رفع شعار quot;حزب لكلّ أسرةquot;. و لم يعد غريبا، في زمن العجائب هذا، أن نجد حزبا سياسيا يقوم باجتماع عام في منزل رئيس الحزب لأنّ أعضاء مكتبه التنفيذي ليسوا في النهاية إلّا أفراد الأسرة المصغّرة والموسّعة لرئيس هذا الحزب!! فهل أصبح إنشاء حزب دعوة إلى quot;مجلس أحبابquot; تعدّه الزوجة وبعض الأبناء، ويحضره الأقارب والأصهار وما جاورهم مِنْ سكان؟؟. وهل سيرتقي مستوى الأداء السياسيّ إلى مرتبة يصبح فيها الحزب الواحد متكوّنا من زوج رئيس وزوجة نائب يخشيان مِن تحوّل الأبناء إلى جبهة معارضة من الداخل؟؟
وما قد يُخشى حدوثه في تونس الجديدة أن يعجز حزب ناشئ على أن يضمن منخرطين يتجاوز عددهم عدد المسافرين في سيّارة أجرة!!. وقد يأتي على تونس يوم لا يستطيع فيه منخرطو حزب من الأحزاب اكتراء quot;سيارة أجرةquot; لعدم اكتمال النصاب؟؟وليس غريبا أن يتنقّل حزب من الأحزاب بكامل أنصاره في سيارة ربحا للوقت واقتصادا في الطاقة!!؟؟.
إنّ الناظر إلى بعض البرامج السياسيّة التي تقترحها هذه الأحزاب المتساقطة حديثا يتبيّن غياب الخصوصيّة والتميّز. وقد يقف المتابع على خواء البرنامج السياسيّ، وغياب إستراتيجية واضحة للعمل السياسيّ المقترح. فهل يكفي أن يعلن أحد الأحزاب مثلا أنّ quot;تونسquot; دولة عربية دينها الإسلام، تحدّها من الجنوب ليبيا ومن الغرب الجزائر، ومن الشمال والشرق البحر حتى يحصل على تأشيرة ويبحث عن مقرّ!!؟؟وهل يعقل أن يصبح تكوين الحزب أشبه بطلب إنشاء جمعيّة مدنيّة أو منظّمة؟؟
وإذا كانت بعض الأحزاب تعمل على قاعدة القرابة والمصاهرة فاتحة أبوابا جديدا في الاجتهاد السياسيّ الذي قتله التحنيط والتنميط في الممارسة طيلة سنوات حكم الديكتاتور الأوّل والثاني، فإنّ أحزابا أخرى اختارت التنويع على أصل واحد. إذ بعد أن وحّد صفوفها quot;زين العابدين بن عليquot; في سجونه ومنافيه، وحوّلها إلى جبهة معارضة قويّة، انفرط عقدها بعد غيابه. فعادت إلى الساحة السياسيّة تحمل الأيديولوجيا نفسها مع اختلاف لونيّ فرضته ظروف مستجدّة، وحتّمه تعدّد الزعامات داخل الاتجاه الواحد. وممّا يزيد الأمر قتامة وغموضا أنّ المتابع للفسيفساء الحزبية الجديدة لا يكاد يظفر بما يجعله يقتنع باختلاف هذا الحزب عن الآخر بل في الغالب يحصل لديه انطباع بأنّ هذه الكثرة لا تعني تعدّدا في البرامج السياسية وتنوّعا في رسم الاستراتيجيات
ومن الأكيد أنّ الانتخابات الأخيرة قامت بفرز القوى السياسيّة التي ستتمكّن من الصمود والعيش، وحكمت على أحزاب أخرى بأن تظلّ مجرّد لافتات إشهاريّة شاهدة على أحلام أصحابها التي لم تتحقّق. فالأحزاب لا تتكوّن بالنوايا الطيّبة فحسب، ولا بكاريزما رئيس الحزب-وإن كانت عاملا مؤثّرا-. بل ببرامج واضحة يتآلف فيها السياسيّ والاقتصاديّ ويتعاضد فيها الثقافيّ والاجتماعيّ وفق تصوّر متكامل يخضع إلى أيديولوجيا واضحة في منطلقاتها وغاياتها وآلياتها، تستثمر الماضي نبراسا والحاضر أساسا، وتستشرف المستقبل.
على أنّ quot;تونسquot; التي ضحّت بشبابها وأجيالها من أجل رفض الحزب الواحد والزعيم الأوحد لجديرة بحياة سياسيّة تعدّديّة. ويظلّ الخوف -كلّ الخوف- من أن يتحوّل التدفّق الحزبي الذي تشهده البلاد إلى طعام يعسر هضمه على معدة ألفت الخواء على مدى أكثر من نصف قرن.