إذا كان الهدف من التغيير هو تحقيق المزيد من الإنجاز والتقدم في ميادين الحرية والنمو السياسي والاجتماعي والاقتصادي والبناء الديمقراطي العام، لفائدة الشعب بمختلف فئاته وشرائحه الاجتماعية، فإن ذلك يستتبع بالضرورة أن تكون قوى التغيير منبثقة من هذا الشعب، مرتبطة بهموم مكوناته الأساسية أشد ما يكون الارتباط، في كل مراحل تطورها، تقدما وتراجعا، حتى تقوم بالدور المنوط بها في هذا المجال. ذلك أن كل قوة سياسية مهما زعمت في خطابها الدعائي والسياسي أنها قد نذرت نفسها، وحصرت همها، وسخرت أنشطتها، لخدمة مصلحة الشعب بصورة مطلقة، لا يمكن أن تحظى بالمصداقية، ولا يمكن أن يعتد بها، في ميادين التنافس والصراع السياسي، إلا بقدر ما يرى الشعب في أطروحاتها الفكرية والسياسية، وفي برنامجها السياسي المرحلي، جوهر مصالحه، وإمكانية تحقيقها على أرض الواقع من جهة، وبقدر ما يبدي الاستعداد، من جهة أخرى، للانخراط في عملية التغيير السياسي التي تقودها هذه القوة منفردة، أو بتنسيق مع غيرها من القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى التي تنشط على الساحة السياسية وتتقاسم معها التطلعات الجوهرية والأهداف المباشرة من العملية السياسية.

هذا يعني ضرورة التمييز بين التيارات الفكرية والإيديولوجية التي لا علاقة مباشرة لها مع قوى المجتمع وبالقضايا العملية، وإنما ينحصر فعلها على المستوى الفكري النظري، وبين القوى السياسية المنخرطة في مختلف الصراعات المجتمعية باعتبارها هي وحدها القادرة في حال ارتباطها العضوي والديناميكي بالشعب وهمومه وقضاياه وحرصها على تجنيد كل الطاقات الوطنية المتوفرة في سبيل التغيير على إنجاز هذا التغيير. وبطبيعة الحال، فقد توجد هناك جماعات أخرى قد تنتظم في أطر خاصة ذات أهداف فئوية محدودة قد تؤثر في سير العملية السياسية باتجاه المحافظة على الأمر الواقع أو باتجاه التغيير إلا أنها ليست هي صاحبة الكلمة الفصل في أي من العمليتين، لذلك يطلق عليها اسم جماعات الضغط وليس اسم القوى والأحزاب السياسية ذات المشاريع الاجتماعية والسياسية الحاسمة في تحديد بوصلة الممارسة السياسية في أي مجتمع من المجتمعات.

وليست هي التي تعنينا في هذا المستوى من المعالجة، المخصصة للقوى السياسية التي تتحدث باسم الشعب لتسويغ مطالبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والدعاية لمواقفها الإيديولوجية الرامية إلى بناء نظام سياسي ترى أنه الأكثر تلاؤما مع مستوى تطور المجتمع أو ترمي إلى الدفاع عن النظام القائم باسم الدفاع عن المصلحة العامة في الاستقرار السياسي وعدم الدفع بالمجتمع إلى القفز نحو المجهول، وخاصة في المراحل المفصلية وعتبات التحولات الكبرى التي يعرفها المجتمع.

وفي كل الأحوال، فإن حصر العلاقات الفعلية بين أي قوة سياسية وبين الشعب في فترات الاستحقاقات الانتخابية الدورية وحملاتها الدعائية المحدودة في الزمان وعلى مستوى الاستشارات أو الانتخابات المحلية والوطنية لا يفي بما تتطلبه العلاقة العضوية التي ينبغي أن تسود هذه العلاقات، وبالتالي، فإن هذا السلوك المحدود، غير قادر على تطوير وتفعيل هذه العلاقة، بل قد يكون السبب في تدهورها، خاصة عندما ينسى أو يتناسى المنتخبون الحزبيون الدوائر الانتخابية التي ساندتهم في حملاتهم الدعائية، وصوتت بكثافة لفائدتهم. ذلك أن تجاهل مشكلات ساكنة تلك الدوائر، لهذا السبب أو ذاك، حتى في الوقت الذي يبدو فيه وجيها من حيث المنطلق، يحبط، بل ربما يغضب المواطن الذي يرغب على الدوام في التواصل مع ممثليه في المؤسسات المنتخبة وعندما لا يرى قضاياه مطروحة على جدول أعمال هذه الهيئة المنتخبة أو تلك، فإنه يحمل المنتخبين المسؤولية الأولى والأخيرة. وقد يتحول سلوكه الانتخابي في بعض المراحل إلى سلوك عقابي ويتوقف عن كونه سلوك اختيار للبرامج أو الأشخاص.

يمكن للارتباط بين قوى التغيير وبين مختلف شرائح المجتمع أن يتخذ أشكالا متعددة، نظرا لتعدد وتنوع هذه الفئات وتباين أولوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وينبغي أن يكون هذا الارتباط بمستوى هذا التنوع، حتى يتم إشراك فئات الشعب المختلفة في التصورات البرنامجية وأساليب العمل لتحقيق تلك التصورات على أرض الواقع، بدعم منها، خاصة إذا كانت ممارسة قوى التغيير تواجه البرامج المضادة لقوى المحافظة على الأمر الواقع، ومختلف جيوب مقاومة التغيير. وغالبا ما يكون المشهد العام على هذه الشاكلة في مختلف بلدان العالم، وإن اكتسى حدة في البلدان التي تكون علاقتها بالنظام الديمقراطي وممارسة الحرية أقل وضوحا ورسوخا كما هو عليه الأمر في أغلب البلدان العربية وبلدان العالم الثالث عموما.

إن جماهيرية الحزب السياسي، أو التحالف الحزبي أو أي شكل من أشكال الجبهات الضيقة أو الواسعة التي يتم إنشاؤها للاضطلاع بمهمة التغيير ليست من بين المعطيات المسبقة في أي واقع أو ساحة سياسية، وإنما هي نتيجة عمل دؤوب لتلك التنظيمات، يؤدي التراخي فيه أو استناده إلى برامج غير واقعية، واعتماده على وسائل غير ملائمة إلى تراجع تلك الجماهيرية جزئيا أو كليا وانفراط عرى تلك التحالفات والجبهات. وهذا ما يفسر اندثار أحزاب سياسية كبرى في مختلف أنحاء العالم وخاصة ما أبانت عنه تجربة الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والجبهات التي تشكلت حولها والتي تراجع تأثيرها بشكل ملفت للأنظار وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق والمنظومة الدولية المرتبطة به.

ومن بين الأشكال المعتمدة أو التي ينبغي اعتمادها لضمان هذا الارتباط الضروري بين قوى التغيير وبين مختلف شرائح المجتمع، العمل على تنويع قنوات الاتصال والتواصل بينها وبين الجمهور المعني سواء كان ذلك عن طريق الإعلام السمعي البصري والمكتوب أو عن طريق وسائل الاتصال الحديثة الأخرى، إلى جانب التواصل المباشر مع المواطنين في مختلف المناسبات السياسية والاجتماعية والوطنية. وبقدر ما ينجح الحزب السياسي في جعل هذا التواصل مستمرا ومتطورا، من مرحلة إلى أخرى، وبقدر ما تكون رسائله السياسية واضحة الأهداف والمفردات بقدر ما يثمر ذلك توسعا في جماهيريته، ومزيدا من التفاف الجماهير حول برنامجه السياسي، وهو ما سيترجم عمليا، خلال الانتخابات والاستشارات الشعبية التي يتم اللجوء إليها بصورة دورية في المجتمعات الديمقراطية أو التي تعيش هامشا من الحريات السياسية الفردية والجماعية التي تزود المجتمع بنفس متجدد بتجدد نخبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ذلك أن النجاحات التي تحققها في هذه الاستحقاقات تشكل مداخلها القانونية والشرعية إلى تبوأ مواقع داخل مؤسسات تدبير الشأن العام على المستويات التشريعية والتنفيذية المحلية والجهوية والوطنية حيث تتم البرهنة على مدى الالتزام بما تم طرحه من برامج وما تم تقديمه من وعود في مجال خدمة مصالح المواطنين باعتباره شرطا ضروريا لتجديد العلاقة بين الأحزاب والمنظمات السياسية بين مختلف شرائح المجتمع التي تتوجه إليها بخطابها السياسي. ويمكن القول إن هذا الاختبار هو الذي يكشف، في نهاية المطاف، عن الطبيعة الحقيقية لمختلف القوى وطبيعة الروابط التي تجمعها مع الشعب أو كيف تجد نفسها في واد غير الوادي الذي يوجد فيه الشعب.

وعندما تحدث هذه القطيعة تكون الطرق كلها سالكة أمام مختلف أشكال الاحتقان والتوتر التي قد تؤدي إلى الانفجار الشامل حيث تنقلب كل المعادلات السياسية رأسا على عقب وحيث ينبغي إبداع لغة سياسية جديدة قادرة على مواكبة التطور الذي يجري في ظل الغليان العام. وهو جهد ليس بإمكان كل القوى بذله وتوجيهه بصورة صحيحة إذ تظل قوى الشعب الأصيلة هي التي لا تفقد البوصلة الدالة على الأهداف الرئيسية للممارسة السياسية الوطنية وهي تحقيق طموحات الشعب في الكرامة والتحرر والتنمية السياسية، في حين أن القوى الطفيلية غالبا ما تبحث عن الحلول السهلة التي تؤدي في الأغلب الأعم إلى وأد تلك الطموحات في وقت تعتقد فيه أنها تعمل من أجل تحقيقها. وخاصة عندما ترهن مصيرها بإرادة غير إرادتها وإرادة شعبها تحت هذه الذريعة أو تلك.

كاتب وباحث مغربي