رغم كلّ ما يمكن أن يُقال عن الفترة التي أعقبت فرار quot;بن عليquot; إلى السّعوديّة في يوم عطلة أسبوعيّة !!، ورغم ما رافق تلك المرحلة من هِنات، ومن اضطرابات، فإنّ حالة التوافق السياسيّ-وإن كانت نسبيّة- هي التي مكّنت البلاد التونسيّة من أن تجتاز أصعب ظرف مرّت به منذ الاستقلال، وأن تعزّز الثقة بميلاد تونس جديدة تقطع مع الديكتاتوريّة.
ومنذ أن فاز حزب quot;حركة النهضةquot; بأكثر المقاعد في المجلس التأسيسي، واختار عن طواعيّة التحالف مع حزبيْن منافسيْن، حرصت الرئاسات الثلاث على تسويق مبدأ التشاور، وغياب التداخل في صلاحيات كلّ رئيس.لكن جاءت قضية تسليم quot;البغدادي المحموديquot;لتسفّه هذا الزعم، و لترفع الغطاء عن حجم التناقضات والاختلافات بين الأطراف المتحالفة مرحليّا لأسباب ظهر بعضها وخفي أكثرها.وأوّل ما كشفته عملية التسليم التي جرت يوم عطلة، ضعف الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهوريّة التي حوّلته إلى رئيس لا يرأس إلا اجتماعات فريق مستشاريه في أوقات معلومة ! .واتضح أنّ ما خاله الملاحظون محاولة لتقليم أظافر التسلّط الرئاسي الذي عانت منه تونس طويلا زمن quot;بورقيبةquot; وquot;بن عليquot;، قد تحوّل، من خلال القانون المحدّد للسلط، إلى نزع أظافر رئيس الجمهورية برمّتها، ووضعه على هامش السلطة، وتحويله إلى quot;كائن رئاسيquot; له كلّ أطايب الرئاسة: يركب سيارة رئاسية، ويسكن قصرا رئاسيا، ويتحرّك في قافلة رئاسية لكنّه لا يتدخّل في تسيير شؤون البلاد !.فكم من خطاب صادر عن وزير في الحكومة تتعارض أقواله مع ما سبق أن صرّح به رئيس الجمهوريّة !!.وكم من قرار متسرّع اتخذه، مضى وكأنّه لم يصدر. وآخر هذه القرارات المرتجلة تصريح الرئيس بعزل محافظ البنك المركزي.لكن هذا المحافظ مازال في مكتبه إلى اليوم، يقوم بدوره وكأنّ كلام السيّد الرئيس كان أضغاث أحلام رئاسية.
في الحقيقة إنّ ملفquot;البغدادي المحموديquot; قنبلة موقوتة ورّثتها حكومة quot;الباجي قائد السبسيquot; لهذه الحكومة. ويبدو أن فرحة الانتصار بالوصول إلى السلطة قد ألهت هذه الحكومة الجديدة عن تبيّن مدى خطورة هذا الملف وتشعّباته الدوليّة خاصّة بعد أن صدر قرار بضرورة تصفية كلّ المقربين من العقيد الليبي الذين يملكون ملفات ومعلومات عن علاقاته بالولايات المتحدة الأمريكيّة وفرنسا.
لقد صرّح رئيس الجمهوريّة الذي يحمل خلفيّة حقوقية لا يمكن لأحد أن يزايد عليها، أنّه لن يُمْضي على قرار التسليم إلا متى توفرت شروط المحاكمة العادلة التي تكفل حقوق المتّهم، وتمنع عنه الإيذاء.والرئيس quot;المنصف المرزوقيquot; مناضل من مناضلي حقوق الإنسان عانى سنوات طويلة من ظلم quot;بن عليquot; بسبب دفاعه عن منظومة حقوق الإنسان التي كثيرا ما عبث بها الرئيس السابق، ووظفها للتستّر على بشاعة جرائمه.ولكن مرّة أخرى لا يجد كلام الرئيس صدى عند رئاسة الوزراء التي قامت بإجراءات التسليم في استهانة واضحة بمؤسسة الرئاسة.والأغرب أنّ التسليم تمّ في يوم عطلة(يوم أحد) دون أن يقع إعلام الرئيس الذي كان خارج العاصمة، أو تبليغ رئيس المجلس التأسيسي الذي تعوّد، على حدّ قول الناطق الرسمي باسم الرئاسة، أن يغلق هاتفه نهاية كلّ أسبوع ليتفرّغ للراحة!!
أسئلة كثيرة طرحتها عملية التسليم المتسرّعة.وزاد من تأججها تهديد الرئيس بالاستقالة، وقراره برفع الأمر إلى المجلس التأسيسي.لكن رغم كلّ تداعيات هذا التسليم يتساءل المتابع : مَنْ له صلاحية التسليم؟رئيس الجمهورية أم رئيس الوزراء؟لماذا تمّ التسليم، والبتّ في هذا الملفّ الخلافيّ دون تنسيق بين الرئاسات الثلاث؟هل هي رسالة من حزب حركة النهضة إلى حليفيْه لتذكيرهما بأنّه صاحب القرار، وبأنّ وجودهما في الحكم لم تؤمّنه خيارات الناخب بل رغبة حزب حركة النهضة بألا ينفرد بكلّ المناصب؟ لماذا وقع تسليم رئيس الوزراء الليبي الأسبق في يوم عطلة؟
لئن ظهرت عديد الإشارات إلى غياب التنسيق بين الرئاسات الثلاث في مسائل كثيرة، فإنّ تسليم الحكومة quot;البغدادي المحموديquot; دون إعلام رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس التأسيسي من شأنه أن يدقّ مسمارا في نعش التوافق والتحالف السياسي بين الأطراف التي تحكم في تونس.ويبقى التساؤل هل الصدفة وحدها هي التي حتّمت أن يفرّ quot;بن عليquot; من تونس إلى quot;السعوديّةquot; في يوم عطلة، وأن يتمّ تسليم quot;البغدادي المحموديquot; في يوم عطلة؟ ما يرجوه المتابع للشالن التونسي ألا تكون الحكمة هيب الأخرى في quot;عطلةquot; هذه الأيّام!