bull;لنقف أمام لمحات سريعة، ولنتذكر تلك المنطلقات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من كمٍ تراكمي من التعايش مع الأحداث عبر القرون، ولنجعل من إنطلاقتنا الحقيقية يوم:
نزل القرآن الكريم، وبنزوله فتح عصراً جديداً، وحدثت نقلة نوعية في حياة إنسان المنطقة، وما هي إلا فترة وجيزة من الزمن حتى بدأت حياة العرب تتجه إلى نمط مغاير تماماً لما كانت عليه حياتهم قبل نزول الكتاب الكريم.

bull;في القرن الثاني للهجرة برع العرب في دراسة مفردات اللغة، مسترشدين بألفاظ القرآن باعتباره المقياس الأكمل للغة العربية، من هنا كانت الضرورة كبيرة لإنشاء مدرستي البصرة والكوفة للعناية والإهتمام باللغة، ولمع في تلك الفترة اسم الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي ألف قاموس (العين) ونحا فيه منحى يستند إلى مخارج الصوت المتدرجة من الحلق حتى الشفتين، ولم يلتزم بترتيب الحروف الأبجدية الذي كان متعارفاً عليه في وقته، كما أبدع (بحور الشعر) معتمداً موسيقى الشعر ذاته، والحق أن الفراهيدي قد إستنبط جديداً لم يسبقه إليه أحد في زمن لم تتوفر فيه قواميس المفردات.

bull;في القرن الثالث للهجرة بعد أن رسخت اللغة العربية وتم التمكن من إتقان قراءة القرآن الكريم، وأخذت المدارس الفقهية تتسابق في الإجتهادات لإيضاح أصول العبادات.. فلم يعد هناك بعد ما يمنع العرب من فتح النوافذ على مصاريعها للأخذ من علوم وفلسفات العالم، فنهلوا من علوم اليونان، وأخذوا كذلك من الهند وفارس كل ما وجدوه يستحق من الثقافات السابقة.

bull;وكانت خلافة المأمون في ذلك القرن تمثل محطة إنطلاق للعقود التالية عليها، وإن كانت قد سبقتها محاولات متواضعة وإرهاصات لم تكتمل بدأها الأُمويون في ترجمة مبتسرات من علوم اليونان.

bull;لأسباب موضوعية ndash; ذكرها التاريخ ndash; يصعب علينا تقييم كل القرون الهجرية بنفس النسب من العطاءات الحضارية، ولكننا سنمر قليلاً على ملامح من القرنين الرابع والخامس اللذين تمثلت فيهما روعة الابداع في الثقافة والعلوم الإنسانية عند المسلمين والعرب، بسبب أن العوامل الحضارية كلها قد إنصهرت في إنتاج هذين الفنين، فكان أن ظهر للدنيا إنتاجاً حضارياً جديداً لم تعرفه البشرية من قبل.. فهو لم يكن إنتاجاً عريباً خالصاً، وإن كان موطنه بلاد العرب.. وهو ليس يونانياً، وإن كان يستند على علماء اليونان في بعض مرجعياته العلمية والفلسفية، كما أنه ليس إنتاجاً هندياً كما عرفته بلاد السند من قبل.. وهو ليس فارسياً أيضاً.
إنه نتاج حضارة إنسانية صهرتها العقلية الإسلامية العربية وطبعتها بالطابع الإنساني، مما جعلها سهلة التناول، والاستفادة منها عند الأقوام الآخرين، وبغض النظر عن زمكانية تطبيقها..

ويكفي لتأكيد عظمة تلك الحقبة أن تاريخ الحضارات الإنسانية قد خلّد أسماء كوكبة من الفلاسفة وعلماء الإسلام والعرب، ظلت الصروح العلمية والأكاديمية تنهل من ثرواتهم وتعترف لهم بالريادة والإبداع عبر القرون، ولازالت تذكرهم بالتبجيل والإحترام.. فلماذا إذاً بقي العالم العربي متخلفاً عن مواكبة المعطيات الحضارية المعاصرة، وخصوصاً في ميدان الصناعة؟!..

* * *
bull;قد يقول قائل : إن وجود معوقات كحالات الإستعمار، والتأثيرات الأجنبية، والتبعية الإقتصادية، وغير هذه العوامل لعبت دورها بلا شك في إعاقتنا من اللحاق بالتطور الصناعي والاقتصادي!!.. ولكن ذلك لا يجب أن يمحو السؤال الذي بدأنا به ولم نجد عليه إجابة؟!..

bull;في حين أن الغرب كما وضّح العالم الألماني (ماكس فيبر) قد وضع إستراتيجية للعلاقة بين العلم الحديث والإصلاح الديني، وبحث أيضاً العلاقات بين نشوء الرأسمالية الحديثة ونشوء العلم الحديث، والتغييرات الفكرية والدينية والذهنية التي خضع لها المجتمع الأوروبي، والتي جعلت منه مجتمعاً مغايراً تماماً للمجتمعات الأخرى التي كانت متفوقة عليه تاريخياً مثل: الصين، و الهند، والمجتمع الإسلامي..
والنتيجة التي أستخلصها (ماكس فيبر) عن تخلف بلاد الشرق من اللحاق بعصر الحداثة العلمية والإقتصادية الذي دخلته أوروبا من أوسع الأبواب، إنما منشأه الإختلاف ما بين (العقل) و(العقلانية)، (فالعقل) عنده هو مفهوم (فردي) بينما (العقلانية) هي مفهوم (جماعي)..
ويؤكد على ذلك بالقول:
quot;إن (العقلانية) تجسد السلوك الجماعي، فما يفعله المرء يعتبر تلقائياً لأنه مفروض عليه من داخل المجتمع.quot;
ولـ (ماكس فيبر) دراسات وإجتهادات يوضح فيها كيف أصبح السلوك الجماعي الأوروبي عقلانياً بعد تلك الثورات التي حدثت في القرن السابع عشر.. وعندما يذكر بلدان الشرق وخاصةً الإسلامية منها، يضرب المثل على فشل الفردية عندهم.. وبهذا الصدد يقول:
quot;إن المسلمين كثيراً ما يتجه تفكيرهم إلى الإسلام، ولكنهم لا يفكرون أبداً بالمسلمين، في حين أن اللحاق بالتطور الصناعي والإقتصادي والإجتماعي يستهدف أول ما يستهدف الناس.. جميع الناس.quot;

bull;وقد ضرب أحد علماء الإجتماع العرب (عبد الله العروي) مثلاً يوضح فيه الفرق بين (العقل) و(العقلانية) التي أشار إليها (ماكس فيبر) فقال:
quot; إن العقلانية جماعية، والعقل فردي، والمثال على ذلك أن أي عربي يذهب إلى أمريكا يتضح له إنه كفرد أذكى بكثير من الفرد الأمريكي، بينما يختلف الأمر حينما يتعلق بالسلوك الأمريكي الجماعي، الذي لا علاقة له بالسلوك الأمريكي الفرديquot;.

* * *
bull;لكي نقترب أكثر في إجتهادنا ونحن نحاول الإجابة على السؤال:
يتضح لنا أن عالمنا العربي والإسلامي غير موحد الرؤية، فهناك من إتخذ سلوك الإلتفاف إلى الوراء مغرقاً نفسه في ماضوية مفرطة حالت بينه وبين التفاعل مع معطيات العصر الحضارية.. وفي نفس الوقت فإنه يستهلك وينعم بالمبتكرات التي تفرزها حضارة الغرب.. وهناك من يحاول الإلتفاف إلى الأمام بإمكانيات متواضعة لا تقدم له إلا القليل القليل.. وهناك من يقف بين بين كمن أضاع خطواته.. وجُلَّ محاولاتنا ترتكز في الأغلب على الوجدان، وهذا لا يقبل به العلم الحديث القائم على معادلات دقيقة.

bull;وإذا تجاوزنا عن تاريخ الموروث العلمي الذي ورثه الغرب من القرون القليلة السابقة على قرننا الحاضر، فسنجد أن المحطات التي إرتكزت عليها حضارة هذا القرن الصناعية إنما تتمثل بالتالي :
1.حقيقة الأشياء تكمن في سيرتها وتاريخها.. والجوهر ليس ثابتاً.
2.التطور في إكتشاف طبيعة الإنسان بعد أن تبيّن أن للعقل الباطن دوراً يحكم سلوك ذلك الانسان.
3.تعدد الإتجاهات في بحث نظرية جدلية التاريخ.
4.نسبية أينشتاين التي تعد قاسماً مشتركاً في التماس بالعلوم حتى وقتنا الحاضر.
بالطبع فإنه لا حياة للأمم بغير ماضيها، فحياتنا المعاصرة، ما هي إلا حلقة في سلسلة متتابعة الحلقات، ماضياً بحاضرٍ، وحاضراً بماضٍ، وإلا لما عرف الإنسان من أين بدأ.
ومادام التاريخ هو جزء منا لأنه ذاكرة الأمم، فواجبنا أن ننقب ونحن نبحث عن موقعنا فيه!..
وكما بدأنا بسؤال.. فعلى ضوء ما تقدم يبقى ذلك السؤال مطروحاً:
أين نقطة البدء؟!.. خصوصاً أن التيارات الاسلامية في وقتنا الراهن تكاد تحكم قبضتها على مساحات واسعة من دول العالم الاسلامي.. فنحن جميعاً مدعوون للبحث عن إجابة على سؤال (أين العرب والمسلمين.. مقارنةً مع غيرهم في الزمن الراهن؟!..)