نُشرت هذه المقالة منذ أكثر من ثلاثين سنة في جريدة القبس الكويتية.. وكانت ردود الفعل عليها، كما أشرت في العنوان.. ومع مرور ثلاثة عقود على كتابتها ونشرها، أُعيد نشرها كما هي لنرى كيف يحكم عليها أبناء هذا الجيل؟!..

* * *
bull;لله درك يا ابن بنت رسول الله..
ما أروع يوم ميلادك، وما أعظم لحظة استشهادك!!..
فإنك بحق قد تجاوزت حدود المألوف لتُختَصَّ بمميزات قلَّ أن يجود بها الكريم على أحد من عباده!!..
لقد ولدت بحضن رسول الهداية والمحبة، وكانت يدا المصطفى الحبيب الكريمتين أول من تلقفتك ليؤذن عليه السلام بإحدى أذنيك ويُكَبر في الأذن الأخرى..
أهناك شرف بعد هذا؟!..
ثم يطلب الأمين الصادق أن تُقصَّ بعض خصلات شعرك لتوزن بالفضة، ليتصدق بها على الفقراء!!..
وتبقى بدون اسم لسبعة أيام، ثم يأتي جدك محمد ليطلق عليك اسم الحسين.. ويا له من تكريم ما بعده تكريم أن يسميك رسول الله!!..
bull;ماذا عسى لواحد مثلي وهو يعيش العصر الذي إن حافظ فيه على اسلامه، كأنه ذاك الذي يمسك بالجمر؟!.. وكيف يتسنى له أن يتحدث إليك في ذكرى يوم استشهادك؟!.. وأنت من أنت؟!.. ألست من بيت طاهرٍ؟!.. أوليس العزيز الحكيم جل وتبارك قد أنزل الكلم بتكريمك، إذ جعلك من الطاهرين بمحكم آياته : quot; إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً quot;..
وأنت أحد أهل هذا البيت الشريف!!..
bull;كم كان يحبك رسول الله يا حسين؟!.. وكم كان يحلو له مداعبتك، وكم حملك على كتفيه الشريفتين؟!.. وكم أنَّب أم الفضل من أن تنالك بشيء لأنها أنزلتك يوماً من فوق ظهره وأنت تلاطفه وهو راكع يصلي لله جل وتبارك؟!..

* * *
أما عن طفولتك الثانية، فالحديث ذو شجون.. فإلى جانب أنك أشرف الناس أباً وأماً وعماً وعمةً وخالاً وخالةً.. فجدك سيد الأنبياء، وأبوك علي باب مدينة العلم، وأمك فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وعمك الشهيد جعفر الطيار، وعم أبيك أبو الشهداء حمزة، وجدتك خديجة بنت خويلد أول النساء إسلاماً، وعمتك أم هانيء، وجدتك لأبيك فاطمة بنت أسد التي وسّدها الرسول بالقبر، وخالك ابراهيم ابن رسول الله، وخالتك زينب بنت رسول الله..
أهناك بيت أشرف من هذا البيت؟!..

* * *
bull;ويرحل حبيبك وجدك ملبياً نداء السماء، ثم تلحق به بعد ستة أشهر أمك الطاهرة.. وأنت لم تتجاوز السابعة من عمرك، وإذا بك تغدو ريحانة رسول الله لديهن جميعاً، عائشة، أم سلمة، حفصة، أميمة، زينب، ومريم القبطية..
نعم لقد عشت بين أحضان أمهات المؤمنين، يحطنك بالرعاية والحب والأمومة..
bull;وتشب عن طوق الطفولة مبكراً، وإذا بك معهم، تجالسهم، تستمع إليهم.. مع التلاميذ النجباء، تلاميذ جدك.. فها هو الصديق يحيطك بالتكريم والعطف والحب!!..
ألست أحد سيدي شباب أهل الجنة؟!..
أما صديق والدك الصدوق، والذي كان يشاركه معه في حل المعضلات : الفاروق عمر، فقد كان يحبك كحبه لصديقك ابنه عبد الله بن عمر..
وأما زوج خالتيك ذو النورين عثمان فيكفيك جزاءاً لحبه لك أن كنت تحرس باب بيته مع شقيقك الحسن يوم هجم عليه القوم معرضاً حياتك للموت في سبيل حمايته!!..
وعلى صغر سنك قد كنت موضع احترامهم واهتمامهم..
نعم.. يا حسين كنت موضع اهتمام أولئك الذين شمخ بهم دين الله، فهذا عمك أبو ذر الغفاري، وعمك سلمان الفارسي، وعمك المقداد بن الأسود الكندي، وعمك عمار بن ياسر، وكل من كان يحب جدك وينصر دين الله..
bull;هذه الكوكبة من الشرفاء، هؤلاء كانوا مدرستك الأولى التي تربيت فيها.. كل هذا الى جانب أبيك الفذ الذي أحاطك بتربيةٍ تليق ومكانة بيت النبوة..
فكيف بعد هذا لا تغدو شاباً مؤمناً، شجاعاً، فصيح اللسان، كريم الخلق، كريم العطاء؟!..
bull;فأما عن إيمانك، فيكفيك وأنت حفيد رسول الله وسيد شباب أهل الجنة أن حججت عشرات المرات مشياً على الأقدام من المدينة الى مكة!!..
وأما عن شجاعتك، فهذا التاريخ يحدثنا بما أنزلته بأعداء الاسلام من بلاء عندما كنت تقاتل تحت رايته أثناء خلافة عمر بن الخطاب!!..
وأما عم فصاحتك، فيكفي ردك على ذلك الذي قال لك : صف لنا إلهك، فقلت له : quot; من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الالتباس، مائلاً إذا كبا عن المنهاج، طاعناً بالاعوجاج، ضالاً عن السبيل، قائلاً غير الجميل.. أصف إلهي بما وصف به نفسه.. لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلا هو الكبير المتعال quot;..
أما قولك يا حسين :
إن جادت الدنيا عليك فجد بها على الناس طرَّاً قبل أن تتلفت
فلا الجود ينفيها إذا هي أقبلت ولا البخل يبقيها إذا ما تولت
وكذلك قولك :
الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول النار
bull;والحديث عن كرمك فبلا حرج أتحدث :
يروي ابن عساكر في تاريخ دمشق أنك مررت بمساكين يأكلون فدعوك الى الطعام، ولأنك متواضع كتواضع جدك محمد وأبيك علي، فنزلت وأكلت معهم ثم قلت لهم : quot; قد أجبتكم فأجيبوني quot;.. قالوا : نعم.. فمضيت بهم إلى بيتك وأطعمتهم وكسيتهم..

* * *
bull;سيدي أبو الشهداء، إن مأساة استشهادك صارت أمثولة على امتداد التاريخ، هناك من يذكرها بالفخار والاعزاز مردداً قولتك :
quot; ما خرجت آشراً ولا بطرا، ولكني أريد الاصلاح في أمة جدي.. quot; وخرجت، وحدث ما حدث في واقعة كربلاء!!.. وهناك من جعل هذه الذكرى تنحو منحىً مخالفاً لأهدافها!!..
وسأكتفي بكلمة قالها عنك أحد عظماء هذا العصر، وهو ليس بمسلم بل ولا مسيحي أو يهودي : إن غاندي يقول عنك كما ذكر ذلك نهرو في كتابه (صفحات من حياتي ).. يقول غاندي :
quot; لقد تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً لكي أنتصر على ظالمي quot;..

* * *
bull;نعم يا ابن بنت رسول الله لقد ثرت ضد الظلم وضد القهر، وترجمت معارضتك من القول الى العمل.. وكانت ثورتك من أشرف الثورات التي مرت في تاريخ الانسان..
إن سر المأساة التراجيدية في ذكرى يوم وفاتك، أنك وأنت حفيد رسول الله تُقتل من أجل مبادئ رسول الله، وبأيدي أناس يزعمون أنهم يحافظون على الاسلام الذي جاء به رسول الله، جدك بأمر من الله جل وتبارك.. وقتلتك يا سيدي استمروا ببطشهم ليتحكموا برقاب الناس باسم الاسلام، وتحت راية محمد رسول الله ndash; كما يزعمون ndash; ولكن التاريخ منذ استشهادك وحتى قرون طويلة يحدثنا عمن حكموا الاسلام باسم الاسلام، قد تجبروا، وبطشوا، وجعلوا من أمة الاسلام تكون في مؤخرة الصفوف بعد أن كانت أيام جدك والراشدين من بعد في مقدمتها!!..
ولست أُعد مجانباً للصواب عندما أقول :
bull;سيدي أبو الشهداء إن البعض يتاجر على حساب أشرف ثورة عرفها التاريخ وهي ثورتك.. التي ما انطفأت شرارتها لأنها النبراس الذي يستنير بضوئه الشرفاء منذ قرون..
سلام على الحسين بن علي بن أبي طالب، بن فاطمة بنت محمد في يوم ذكرى استشهاده..