كتب لي أحد السوريين: كان حبنا للوطن في حجم القلب، فصار أكبر ملايين المرات من القلب.. كنا نحب الوطن بصدق وكنا نهواه بعمق.. فصرنا نعشقه ذلك العشق الصوفي الكبير الذي لا يسعى إلا لغاية واحدة وهي الجلوس في حضرة المحبوب الوطن.
وعُشاق الأوطان في التاريخ كانوا دائماً أصحاب مروءة.. والمروءة في اللغة العربية كلمة ثرية جداً بالمعاني.. فهي تعني الشهامة والإيثار والصدق والوفاء، وكل ما شئت من تلك القيم الأخلاقية الرفيعة التي ترتفع بالإنسان إلى مرتبة الأبطال..
ودائماً كان العشاق يعطون ولا يأخذون، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..
وكان من بينهم فقراء وبؤساء، ولكن جميعهم كانوا لا يفكرون في غايةٍ من تلك الغايات الصغيرة والخسيسة أحياناً، التي أصبح الناس يتكالبون عليها في هذا العصر وإن كلفهم الأمر ما كلفهم.. فذاك يتخذ لنفسه عنواناً ضخماً كمعارض، ثم يفتح قنوات مع الأنظمة المعادية للوطن، ليخون المعارضة والوطن معاً.. وآخر يتاجر باسم الوطن لبناء مجد شخصي يسعى إليه، وكل هؤلاء وغيرهم يعرفهم عشاق الوطن الحقيقيون.. فعندما يصبح للوطن عشاق على الطريقة الصوفية فإن التراب ينقلب إلى ذهب.. وتتحقق كل الأحلام العظيمة التي كانت تداعب خيال الإنسان منذ فجر التاريخ.
إن وطن العشاق (سوريا) هو دائماً المكان الذي تطمئن إليه الطيور والعصافير والفراشات، وتستريح فيه النفوس المتعبة التي أرهقها البحث عن لحظة فرح، وتسكنه كل الكلمات والقصائد والإبداعات العظيمة الجميلة..
وقد يحدث أن يكون العشاق أحياناً حفاة عراة، ولكنهم مع ذلك يكونون في ذروة السعادة.. إنهم غير ساخطين على الحياة، لا يتبرمون من فقرهم، ولا يتذمرون من واقعهم.. فالحياة في قاموس وطن هؤلاء تعني الكثير من الحرية والقليل من الخبز، والكرامة، والكبرياء، والإباء.. لذلك هم يفدون ذلك الوطن بأرواحهم، ويقتلعون الشر من أرضهم.. سوريا، التي ترونها اليوم!!..
إن النفوس الكبيرة تترفع دائماً عن المغانم السريعة والنزوات العابرة والمظاهر الزائفة.. إن عشاق الوطن في حالة خصام دائم مع حطام الدنيا، ولذلك تراهم أصحاب نفوس أبيةٍ ويعيشون في نعيم رغم بؤسهم.. ومن يراهم يحسبهم من شدة عشق الوطن من أثرى الأثرياء.. لأنهم يعشقون، وهل هناك ثراء يساوي العشق؟!..
وكل عُشاق التاريخ كانوا أصحاب نفوس كبيرة يعيشون من أجل غاية وحيدة وهي الوصال مع محبوب اسمه الحرية.. وليس كأولئك الذين يسعون إلى إسترداد مناصبهم أو وجاهتهم الإجتماعية والإقتصادية، مثل تلك النماذج التي نراها تتظاهر بعشق الوطن، وهي لا تسعى إلا لتحطيم الوطن.. وعلى سبيل المثال: أولئك الذين يتبوأون مناصب، وهم يعرفون حق المعرفة أن قيادتهم مجرمة وسافلة وغادرة، لكنهم يرتضون لأنفسهم أن يكونوا جزءاً منها.. هؤلاء: لا يعرفون عشق الوطن لأنهم لا يعشقون سوى كسرة الخبز المغمسة بالذل والمهانة.. عكس الذين ثاروا وروا بدمائهم شجرة الحرية لأجمل اسم (سوريا)!!..