في الثاني من آب / اغسطس 1990 وفي غمرة حالة غير مسبوقة من الحركية الإقليمية و محاولات إعادة تشكيل المنطقة العربية سياسيا، وبعد عامين كاملين من نهاية أشرس و أطول حرب إقليمية وهي الحرب العراقية/ الإيرانية ( 1980 / 1988 ) أكلت من أرواح و إقتصاد أهل المنطقة الشيء الكثير، قام النظام العراقي السابق ( نظام صدام حسين ) بأكبر مغامرة ذات أبعاد إجرامية في تاريخ المنطقة تغير معها و بنتائجها شكل العالم بأسره و أنتج ماعرف وقتذاك بالنظام العالمي الجديد!، و كان جديدا فعلا بما حققه من متغيرات و أفرزه من أولويات، و بما تمخض عنه من خيار ( أوسلو ) الذي رسم خطا بيانيا جديدا و مختلفا للقضية الفلسطينية، في ذلك الصيف اللاهب حدث المحظور و الذي لم يحدث منذ بداية عصر النهضة القومية العربية الحديثة، وقام جيش النظام العراقي السابق بقفزة و مغامرة في المجهول عبر إحتلال دولة عربية جارة وشقيقة وقفت معه و مع معاركه في أشد لحظاته حلكة و صعوبة!

وقامت قطعات هائلة من ذلك الجيش و منذ ساعات الصباح الأولى لذلك الخميس الحار الملتهب المرعب بإحتلال دولة الكويت و شن حرب إبادة على هوية تلك الدولة وعلى وجودها الكياني، ليعلن نظام العراق عن أطروحته المخفية لعقود و المتمثلة في حكاية ( عودة الفرع للأصل )!

وضم دولة الكويت بكل كيانها و هويتها و تجربتها السياسية الثرية لتتحول للمحافظة التاسعة عشر لعراق البعث البائس، و ليعشعش الخراب و التخلف في أرجائها، و لتمارس أول عملية ضم قسرية على الطريقة البسماركية في العالم العربي في زمن لم يعد يصلح أبدا لتلك الحلول و الإجراءات الفاشية الفاشلة!، لقد تحصن النظام العراقي وقتذاك بقوته العسكرية الكبيرة التي خرج منها بعد الحرب المكلفة مع إيران وبأوهام قوة لم تكن حقيقية وراسخة، بل كانت حالة إنتفاخية متورمة لا تعبر عن حالة صحية بل عن أزمة مكتومة كما تبين لاحقا، كما إعتمد النظام العراقي وهو يجدف بإستهتار فظ في المجهول على تركيبات لتحالفات سياسية هشة لا يمكن أن توفر له الغطاء الكافي لإبتلاع دولة الكويت بيسر، فقبل عام و نيف من الغزو و تحديدا في فبراير/ شباط 1989 دشن النظام العراقي تجربة تحالفية جديدة عرفت بمجلس التعاون العربي الذي ضم إضافة للعراق، مصر و الأردن و جمهورية اليمن الشمالي وقتذاك، وهو تجمع سياسي إقليمي أراده صدام حسين أن يكون محورا مخادعا و تنظيما يجمع ( فقراء العرب )!! كما أشيع وعرف وقتها ووفق أسلوب إنتهازي مفضوح شعاره ( قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق )!! بطريقة إبتزازية مخادعة نجحت في شق العالم العربي و تحويله للأسف لمعسكرين متخاصمين بعد وقوع الواقعة.

ولكن ذلك التجمع أعلن فشله منذ ساعات الغزو الأولى ليتلاشى ذكره و ينسحب خائبا من مسرح التاريخ بعد موقف الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي تمرد على الصيغة التي أرادها صدام حسين، لقد غزيت الكويت وسلبت شخصيتها على حين غرة، ولكن إرادة البقاء كانت أقوى من كل الدبابات و الطائرات وحملات القمع الوحشية، و ألتف الشعب الكويتي بمختلف أطيافه رغم ظروف المحنة و الإنكسار النفسي الرهيب حول شرعيته الدستورية و التاريخية التي خاضت غمار المواجهة الشرسة و أستجابت للتحدي داخليا وخارجيا، وباشرت في بناء الحالة الوطنية الرافضة للإحتلال وفي تعزيز صمود مرابطي الداخل، وجاء مؤتمر جدة في أكتوبر 1990 ليكون بيعة تاريخية وشعبية للشرعية الكويتية وهي تلملم الموقف وتجمع أجزاء الصورة و تعد الكويتيين ليوم التحرير، فالقوة وحدها لا تصنع التاريخ و لا تهدم المؤمنين بحقهم و بحريتهم، لقد ولدت الكويت الحرة الجديدة من رحم المعاناة وعزز الدم الكويتي المقاوم ملف المناعة الوطنية و أكتسب الكويتيون إحترام العالم الحر الذي هب لتجدتهم و مساعدتهم في التخلص من الأسر الفاشي المدمر بعد ملاحم وطنية رائعة صاغتها المقاومة الوطنية الكويتية التي ردت على العدوان بإستبسال تاريخي في ظل وحدة وطنية جميلة رسمت آفاقا لمستقبل حر و موعود و تحت قيادة فرسان التحرير الراحلين أمير الكويت الأسبق الشيخ جابر الأحمد ورفيقه في التحرير المغفور له الشيخ سعد العبدالله الصباح وخلفهم الأسرة الحاكمة الكريمة و الشعب الكويتي الحر وحيث تحقق هدف التحرير المقدس في يوم 26 فبراير 1991 لتنحسر الفاشية البعثية من الربوع الكويتية وليضيق حولها الحصار قبل أن تختفي لاحقا من مسرح التاريخ و الأحداث، الثاني من أغسطس 1990 هو قصة غدر أسود حاول القفز على التاريخ و الجغرافيا، كما أنه في نفس الوقت قصة شعب عربي كويتي صغير أثبت بمقاومته الشرسة بأنه شعب يصنع الحياة و يستجيب للتحديات ولا ينحني أو يركع إلا لرب العزة و الجلال...

بكل تأكيد فقد جرت مياه عديدة تحت كل الجسور بعد التحرير، كما برزت تحديات الموازنة بين معادلتي الأمن و الديمقراطية ودخلت الكويت في منغصات عديدة و مشاكل متراكمة، ولكن من تمكن من دحر الغزو و إعادة الحياة لقادر على تجاوز كل المشاكل بروحية الحوار المسؤول، وهاهي الكويت الحرة بعد 22 عاما من الغزو لم تزل جوهرة الخليج العربي وهي تنخرط في البناء و تمارس التحدي وتخطط للمستقبل... المجد كل المجد للأحرار، والرحمة للشهداء، وتاريخ الشعب الكويتي الحديث هو سلسلة من التحديات والنجاح برغم الأزمات الطارئة و التي تزيد المناعة الوطنية وتربك الأعداء و المتربصين.. و ما أكثرهم....

[email protected]