ليس من مؤهلاتي بعد، الكتابة في المواضيع السياسية والغوص في غمارها، وهذا ليس تقليلاً من شأني بل ترفيعاً من شأن بعض الإعلاميين الشباب الذين استطاعوا خلال بعض السنوات تحقيق انجازات وإثبات قدراتهم، ذلك أن التحليلات السياسية والميدانية تطلب مهارةً عالية وخبرةً كبيرة لما تتوجّبه من دقّةٍ وتوخي حذر.لكن شئنا أم أبينا فإن السياسة اليوم باتت طحين خبزنا، أكسجين هوائنا الذي نتنشقه. باتت تحشر أنفها الذي يكبر كل يوم، سالباً بينوكيو شهرته في هذا المجال، وكأنّها الشيطان الذي يكمن في كل تفصيل.

أنا أبسط مما تعتقدون، أنا لم أتخرج من كلّية الإعلام، لا اقرأ الصحف اليومية، لا أشاهد النشرات الإخبارية المسائية المسهبة، لم أشترك بخدمة الخبر السريع، ولا أملك حتى حساباً على أي من مواقع التواصل الإجتماعية، لكن اسئلةً كثيرة لا تفارق ذهني. دهشةً جديدة ومختلفة بتّ أمارسها كل يوم...نعم نعم، أمارسها كل يوم في بلدٍ أخفق في تضميد جراح حربٍ أهليّة باتت تشكل الجزء الأهم من تراثه وفولكلوره. في بلدٍ لا يزال مقسّماً إلى مقاطعات ومتصرفيات ولا يزال جمال باشا يحكمه ولكنه اليوم يرتدي أقنعةً مختلفةً ويتوتر تماهياً مع العصر.


أمارس الدهشة حين أرى كيف أصبحت السياسة السوسة التي تنخر أثاث العلاقات الإجتماعية والعائلية. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، زوج عمتي السني الذي ينتمي إلى إحدى القرى الشمالية واللذي يوالي تيار المستقبل بطبيعة الحال، لطالما كان فرداً من العائلة ومرحّب به في أي وقت. لا يمكن أن يخفى على أحد، النفور الذي نشأ بينه وبين والدي نتيجةً للمناقشات السياسية المطوّلة كلما إجتمعا، والتي غالباً ما تصل إلى حد الصراخ.

كذلك أخبرني أحد اصدقائي الذي يدرس في الجامعة اللبنانية الأميركية عن الإشكال الذي حصل مؤخراً،قائلاً:quot; ما بخبي عليكي، ما وجعتني ضربة الحجر أد ما نوجعت من إنو الشب لّي طلّع فيي منيح وبعدين رشقني بالحجر، كان جارنا وصديقي من ايام الطفولي قبل ما تفرّقنا المحروسي.quot;


وعلى سيرة الأصدقاء فإن احدهم وصلت به الأمور إلى هجر منزل العائلة بسبب الخلافات السياسية التي تصاعدت وتيرتها بشكلٍ مجرّح، نتيجة إنتماء كل طرف إلى يوم معين من ذلك الشهر المشؤوم، ولم يقبل بالعودة إلا بعد وساطة عائلية وتعهّدٍ بعدم مناقشات أيّة مواضيع سياسية كانت.

ولا أنسى طبعا الكلمة التي quot;طنّتquot; في أذني يوم كنا نزور بعض الأقارب في بلدة برالياس البقاعية، حيث تبجّح أحدهم بما يضمره الكثيرون:quot; الإسرائلية ولا الشيعةquot;

نعم هكذا أمارس دهشتي، هكذا أسأل نفسي ما الذي يؤدي إلى كل هذا الإحتقان؟ ما الذي يميز شعبنا عن القطيع الذي يتبع الراعي دون معرفة الوجهة أو المصير؟ ما الذي يدفع بعض الناس إلى غفران جميع أخطاء زعيمهم الواضحة كقرص الشمس، والذي إن زار لبنان فهو يزوره بالمناسبات؟ ما الذي يدفع بزعيم طائفة أن يسعى إلى إعادة خونة وعملاء اختاروا أن يحتموا بمن إغتصب أرضنا ونكّل بنسائنا وأطفالنا؟ ما الذي يؤدي بالبعض إلى تفضيل العدو على شركائهم في الوطن؟ ما الذي يجعل عائلة تنسى رابط الدم بينها؟ ما الذي يجعلني أستهزئ بأستاذ الأدب العربي الذي جعلني أحفظ مقولة فولتير : quot; قد أختلف معك بالرأي لكني مستعد للموت في سبيل الدفاع عن حقك بالتعبير عن الرأيquot;؟ ما الذي يجعل مؤونات ودفء أهل القرى رهن قراراتٍ سياسيةٍ محض؟ ما الذي يجعل من يفترض أنّهم واجهة البلد فقدان أدنى إحترام وحد من اللياقات الحواريّة والتدني إلى أسفل المستويات، ضاربين بعرض الحائط كلام الله :quot; وجادلهم باللتي هي أحسنquot; سورة النحل؛ quot; وقل للناس حسناًquot; سورة البقرة؛ وكلام الأقدمين:quot; ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضبquot;؟ ما الذي يجعل شباباً في ريعان العمر يوظفون طاقتهم في الأعمال الحزبية والميليشيوية بدل توظيفها في إنتاجات مهنية وإبداعية تخدم هذا الوطن؟ ما الذي...ما الذي...ما الذي.