تتجه وقائع الثورة السورية نحو سيناريو أقل ما يقال عنه أنه سيكون مرعبا، يتناقض تماما مع ذلك الحلم الذي طالما راود الديمقراطيين العرب، بأن تكون سوريا دولة موحدة وطنية ديمقراطية حرة يتعايش فيها بسلام كافة مواطنيها، فإذا ما تسلحنا بالموضوعية و الواقعية فإننا نقول أن سوريا لو كتب لها أن تظل موحدة فإنها ستبقى مرهقة و منهكة و غارقة في نزاعات داخلية و خارجية لسنوات طويلة قادمة، غير أن المؤشرات تظهر في مجملها أن سوريا ستقسم إلى أربعة دول على الأقل، و أن نظام بشار الأسد لن يتردد إذا ما شعر بأنه سيسقط في دمشق إلى إقامة الدولة العلوية، و أن المحيط الخارجي لن يمانع في هذا الأمر.
في تونس أين أينعت أول أزهار الربيع العربي، يخيم الإحباط على غالبية المواطنين بعد توجه الإسلاميين إلى تشييد quot;ديكتاتورية ناشئةquot; كما أعلن عن ذلك في زلة لسان فريدة رئيس حكومتهم، و تثبت الأحداث المتعاقبة أن هذا البلد المغاربي و العربي الذي سبق محيطه القريب و البعيد إلى إجراء إصلاحات تحديثية غير مسبوقة، فرضت لعقود مناخا ليبراليا يحترم الحريات و يساوي بين المرأة و الرجل و يمنح الأولوية للتعليم العصري، يعيش quot;ردة تاريخيةquot; و quot;حكما شاذاquot; لا يتفق مع طموح الشعب في إقامة دولة ديمقراطية مدنية عصرية مثلما أعلنت شعارات ثورات 17 ديسمبر 2010.
و في مصر لا يختلف الشعور بالإحباط و اليأس من أن تدرك الثورة أهدافها، و يعتقد غالبية الديمقراطيين هناك أن ثورتهم سرقت من قبل تحالف خفي قام بين العسكر و الإخوان، و أن حكم الإخوان لن يقود إلا إلى فقدان المكتسبات لا إلى تحقيق الإنجازات، و أن أي تغيير جوهري لن يحدث في اتجاه الاستجابة للانتظارات الحقيقية لغالبية المصريين، و قد أثبت الرئيس الإخواني محمد مرسي خلال الأسابيع الماضية التي قضاها في قصر العروبة في مصر الجديدة، أن لديه قدرات فائقة على الإخلال بالوعود، و أن لديه استعدادات واضحة لإعلان شيء و فعل شيء آخر مختلف تماما.
و في ليبيا، و على الرغم من الانتصار الانتخابي الباهر الذي حققته القوى الوطنية الليبرالية في مواجهة الأحزاب و الجماعات الإسلامية، إلا أن السيناريو الأقرب إلى التحقق هو حاجة هذا البلد إلى سنوات حتى يبني مؤسسات وطنية قوية قادرة على الحفاظ على الوحدة و جمع السلاح الضخم الذي توزع بين الجماعات و القبائل و فرض الاستقرار و الأمن و إنجاز التنمية، فالواقع القائم حاليا يشير إلى أن البلد قد تحول إلى quot;كانتوناتquot; مستقلة عن بعضها البعض، لا تستجيب إلا بشكل رمزي لأوامر العاصمة طرابلس.
و أما في اليمن، فقد أصبح لتنظيم القاعدة إمارات، و أصيبت مؤسسات الدولة بما يشبه الشلل، حتى أن quot;المجاعةquot; أطلت برأسها لأول مرة على هذا البلد السعيد، و ما يزال السياسيون يواصلون تناحرهم، خصوصا أن الرئيس السابق علي عبد الله صالح لم يغادر نهائيا الساحة، إذ ما يزال يتحكم في الحزب الأقوى في البلاد، و ما تزال باقي القوى من التشرذم و الانقسام بحيث لا تملك أي القدرة على فرض أجندة الثورة و تحقيق أهدافها في إقامة يمن ديمقراطي موحد و قوي.
و إذا ما أضفنا إلى هذه المعطيات ما يستجد في العراق من أزمات متداعية، تكرس معطى الدولة الفاشلة فيه و عجز فرقائه السياسيين منذ سقوط نظام صدام سنة 2003 على بناء نظام حكم مستقر قادر على التخلص من الحاجة إلى حقن الاستقرار المفروض من الخارج التي ما فتئ الأمريكيون والإيرانيون يضخونها في شرايين الجسد العراقي المترهل، فإن القول بأن العالم العربي يسير بفضل ربيعه في الاتجاه الصحيح، يضحي قولا غير قابل للقبول أو التصديق.
و لا شك أن تقديرات بعض الخبراء الاستراتيجيين من أن دول الخليج العربي لن تفلت من الوقوع قريبا في مخططات ستؤثر على استقرارها، و ربما تقود بعضها لا قدر الله إلى التفتت و الانقسام، و هو ما سيغرق العالم العربي في حالة من العجز و الفوضى و الضياع غير مسبوقة أو متوقعة، و سيكون العرب معها أمام مفاجأة تاريخية مفزعة من العيار الثقيل، فحواها أن حلمهم القومي قد انهار منذ عقود و أنهم اليوم عاجزين حتى على الحفاظ عن وحدة دولهم الوطنية، و أن تلك المؤامرة التي اقترنت بمخطط quot;الفوضى الخلاقةquot; و quot;تقسيم المقسمquot; و quot;تجزئة المجزأquot;، لم يكن quot;الربيع العربيquot; إلا أحد تجلياتها و تطبيقاتها الشريرة.
و خلاصة القول أن هذا الربيع العربي الذي أراده الديمقراطيون العرب إزالة لاستثناء الاستبداد المخيم على العالم العربي دون سواه، و تعديل موازين القوة مع القوى الخارجية لصالح القضايا العادلة و على رأسها القضية الفلسطينية، و إنقاذ الدولة الوطنية القطرية من العجز و الفشل و دفعها إلى آفاق التكامل و الشراكة الاقتصادية فيما بينها، انتهى إلى تسلط جماعات دينية سياسية ذات برامج رجعية أعجز ما يكون على مواجهة تحديات التنمية، و إلى تأجيج الصراعات الطائفية و المذهبية و الدينية المدمرة، و إلى إضرار بالغ بمقومات الأمن القومي العربي لصالح إسرائيل، و إلى تحطيم معنويات الأمة و نشر مشاعر اليأس و الإحباط و القضاء على جذوة الأمل على نحو غير مسبوق..
أزهار الربيع العربي ربما تكون ذبلت حتى قبل أن يصل أريجها إلى أقرب زراعها و أكثرهم تفاؤلا..
كاتب و ناشط سياسي تونسي
- آخر تحديث :
التعليقات