فى منتصف الأربعينات من القرن الماضي كنا نسكن فى أحد أحياء بغداد الشرقية، وقد ضم الحي سنة وشيعة وعربا وأكرادا وعائلة مسيحية. كنا نحن الأطفال نلعب ونمرح سوية لا نميز بين هذا وذاك إلا بالإسم، ولم نكن نعرف شيئا عن القوميات ولا الأديان. الكبار كانوا يسلمون بعضهم على بعض ومعظمهم كانوا يلتقون فى المقهى القريب للعب (الدومينو) وتدخين (النارجيلة)، ولم نسمع يوما ما بأي خلاف طائفي حصل بينهم. كنا فى بعض الأحيان نسمع صياح النسوة، وقد تشد الواحدة شعر الأخرى (يتكافشن) ولكن سرعان ما يتصالحن وتعود المياه الى مجاريها.

بعد ان أكملنا الدراسة الابتدائية بدأنا نفهم عن الأديان والقوميات بعض الشيء، وفى عام 1948عندما كنت فى الصف الثانى المتوسط كان أغلبيتنا فى الصف مسلمين عربا وأكرادا ومعنا ثلاثة أو أربعة مسيحيين، وتعين فى المدرسة بضع مدرسين من الفلسطينيين اللاجئين فى العراق. وفى أحد الأيام قام أحد هؤلاء المدرسين الفلسطينيين فى اثناء الدرس بتعنيف تلميذ كردي فيلي كان أكبرنا سنا. ولاحظنا ان المدرس قد انتفخت اوداجه من شدة الغضب حتى خفنا ان يؤذى التلميذ فسارع أحدنا بالذهاب الى المدير الذى حضر وسحب المدرس من الصف. وبعد انتهاء الدرس سألنا التلميذ عما جرى فقال بأن المدرس يقول ان الشيعة يبالغون فى تقديسهم آل الرسول وان أبا بكر الصديق افضل عنده من الامام علي بن ابى طالب.
كانت هذه الحادثة المؤسفة أول نزاع طائفي أشهده، ولم يخطر ببالى يومها أن العراق بعد ستة عقود سيخسر أكثر من مئة ألف من أبنائه قتلوا وربع مليون جرحوا لا لشيء وإنما لخلافات طائفية لا معنى لها. فى طفولتنا كنا نسمع من الكبار أن الانسان قد يقتل دفاعا عن عرضه او ماله، ولم نسمع أن انسانا يقتل انسانا لأنه من دين غير دينه او طائفة غير طائفته. لم يختر أحد منا دينه أو طائفته أو قوميته، وانما حصلنا عليها بالوراثة. كما أن غالبيتنا الساحقة لم ولن تجد الوقت او الرغبة لدراسة الأديان والمقارنة بينها واختيار ما تعتقده الأصح والأفضل، أو ترفضها جميعا. أليست من الحماقة أن يقتتل الناس على أمور لم يختارونها ولا يعلمون علم اليقين الحق من الباطل فيها؟ تعددت الأديان والمذاهب وانقسم الناس شيعا وأحزابا وكلهم يقول انهم على حق والآخرون على باطل، ونشبت بينهم حروب ساحقة ماحقة سببت كوارث لا حصر لها لكل البشر. الدين والمذهب من االحريات الشخصية التى تقوم عليها المجتمعات الراقية فى العالم المتمدن ولا تتدخل الحكومات بأمرها ولا يتنازع الأفراد عليها إلا ما ندر. هل يحق لأحد مثلا أن يمنع شخصا من تناول اللحوم فى الافطار ويفرض عليه تناول البيض او الجبن بدلا عنها؟ سعد يرى أن التمارين الرياضية ضرورية فى الصباح، ولكن سعيد يرى أن تمارس قبل الذهاب الى الفراش فى المساء، فهل من المعقول ان يتنازعا ويقتتلا لاختلاف الرأي؟

الآية 134 من سورة البقرة :(تلك أمة خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون). والآية الأخرى: (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه انس ولا جان) الرحمن 39. والأخرى:(من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) فصلت 41. وأخرى: (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته) سورة التغابن آية 64. لماذا يخالف المؤمنون هذه الآيات فيتنازعون ويتقاتلون فيما بينهم؟ إن من يدفعهم الى ذلك هم رجال الدين المزيفون الطامعون بالمال والمنصب ويحرمون كل شيء على الناس ويحلون كل شيء لأنفسهم، فيقوم جهلاء الشيعة منهم بالانتقاص من مقام أئمة السنة، وجهلاء السنة ينتقصون من مقام أئمة الشيعة، والاثنين يتمترسون بأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان لتأييد دعاواهم، فألبوا الناس بعضهم على بعض، فنشب بينهم نزاع طائفي سقيم، تسبب فى مناوشات وقتال سبب الدمار والخراب للجميع. هذا الخلاف لم يقتصر على المسلمين وحدهم، بل حدث مثله فى الدول الأوروبية فتقاتل النصارى الكاثوليك البروتستانت. كل هذا والديانتين الاسلام والمسيحية تدعوان الى السلام والمحبة!. استيقظت الشعوب الاوروبية ووضعت حدا لتسلط رجال الدين على مرافق الدولة وحصرتهم فى الكنائس، فكانت النهضة الاوروبية فى كل المجالات، بعدما أدركت تلك الشعوب أن السياسة الحكيمة هى التى تبنى بلدانهم وليس الدين.
قبل يومين أو ثلاثة قرأت بأن السعودية منعت الدعاء بهلاك النصارى واليهود، وهذه خطوة تحمد عليها ولكن ما ينقصها هو أن التحذير لم يشمل منع التهجم والتحريض على الشيعة الذين يؤمنون بالله ورسوله، بينما النصارى واليهود لا يؤمنون بالرسول الكريم. وعسى أن يلتفت المسئولون لهذا الأمر.

إن ما يحدث الآن فى العراق هى حرب أهلية غير معلنة بين السنة والشيعة، يقودها مشايخ دجالون وساسة مراوغون من الطرفين. ما حصل هو أن سقوط صدام قد جاء بالشيعة الى الحكم، ولم يرق ذلك للطائفيين من السنة فقاطعوا الانتخابات، وسهلوا دخول الارهابيين القتلة من القاعدة وغيرهم الى العراق، فكان ذلك بداية صراع عنيف بين السنة والشيعة، وقام أحد المعممين من الشيعة بالرد على العنف بمثله فسقط الوف الجرحى والقتلى من الطرفين، وهو أمر ينافى تعاليم الاسلام الذى يدعو الى السلم والمحبة. واغتنم بعض السياسيون الانتهازيون الفرصة وشجعوا الطرفين على القتال علهم يحوزون على المناصب التى يتوقون اليها.

قامت بعض الدول العربية وتركيا بتشجيع سنة العراق على قتال الشيعة، كما حذر أحد زعماء العرب من هلال شيعي موهوم، فما كان من الشيعة إلا الإتجاه الى ايران الشيعية التى يجدون يها فيها الأمل الوحيد لانقاذهم من الحلف السني الذى يهدد وجودهم، ووجدت ايران الفرصة سانحة أمامها لبسط سلطانها على العراق أو الحصول على بعض المغانم فى الأقل. وللإنصاف أذكر أن ايران لم ترسل انتحاريين او أسلحة كاتمة الى العراق، بل أن العرب هم من فعل ذلك.

تحدثت تلفونيا مع أحد أصدقائى من السياسيين القدامى ببغداد وهو من عائلة شيعية النسب ولكنه أبعد ما يكون عن الدين والطائفية، فقال لى بأن القاعدة لم تعد بحاجة الى من ترسله الى العراق فقد دربوا الكثيرين من السنة على أعمال القتل والإرهاب، وهم يترصدون الشيعة سواء كانوا فى داخل الحكم أم خارجه، ويبدى الكثيرون منهم الرغبة بالاشتراك فى الهجمات الانتحارية وخاصة العوائل التى قتل الشيعة بعض أفرادها. وأضاف بأن العرب إن لم يوقفوا تدخلهم لصالح فئة دون أخرى فان العراق سيقسم فى النهاية الى ثلاثة أقسام، الشمال الكردي، والغرب السني، والجنوب الشيعي الذى قد ينضم الى ايران مرغما إذا ما شعر بتهديد جدي لكيانه.

يستطيع العرب تجنب هذه الكارثة بالكف عن التدخل فى شؤون العراق الداخلية. كما يجب على الحكومة العراقية أن تضع حدا لتدخل ايران فى شؤون العراق الداخلية وان تمنع رجال الدين من التدخل فى الشؤون السياسية، وان تنشر الوعي بين أبناء الشعب، وإفهامهم بأن فى اتحادهم قوة وفى تفرقهم ضعف وهلاك. إنه ليس بالأمر الهين ولكن لا خيار امامنا.
أما بالنسبة لإقليم كردستان، فأرى أن تترك لهم حرية الاختيار بين أمرين: إنفصال ودي عادل، أو البقاء تحت خيمة الفيدرالية الحالية وايقاف التجاوزات من طرف على الآخر. وإذا ما ضمن كل طرف حقوق الآخر فلن تعد هناك مشكلة، وبذلك نوقف نزف الدماء الذى استمر لعقود طويلة. وأرى أن الانفصال هو الحل الأمثل، مستندا على ما أراه مشكلة مزمنة فى كندا، إذ لم يكف سكان مقاطعة كيبيك الناطقين بالفرنسية عن التهديد بالانفصال عن باقى كندا الناطق بالانكليزية، بالرغم من أنهم يتمتعون بكل الحقوق التى يتمتع بها سكان المقاطعات الأخرى، ولكن يبرز من بينهم بين الفينة والأخرى سياسيون انتهازيون ينادون بالانفصال (كما يحصل فى هذه الأيام بالذات حيث تتهيأ المقاطعة للانتخابات)، فتحصل مشاحنات لا أول لها ولا آخر تؤثر تأثيرا سيئا على الاقتصاد الكندي. ولكن لا أحد من الطرفين يهدد باستعمال العنف واللجوء الى القوة الغاشمة، وهى صفة معدومة عندنا فى العراق بصورة خاصة وفى الشرق الأوسط بصورة عامة للأسف الشديد.