ينتمي تركيب quot;الثقة الزائفة quot;؛ كما لو كان انتاجا لغويّا معبّرا عن حالة عراقية؛ ينتمي الى حقبة مستمرّة الى الان ومنذ الحرب العراقية الايرانية، هذا اذا ما اخذنا المدّ الاعلامي الرسمي الذي صاحب تلك الحرب وما تلاها والذي ادّى وظيفته التعبوية حسب ارادة القيادة العراقية، اذا ما اخذناه على انّه نموذج متطرّف ومتحذلق لنشاط عدد كبير من المثقفين بتنوّع ارائهم، واتجاهه مباشرة الى مجتمع مخصّص لذلك النشاط لانعدام المنافسة تقريبا، وارتباطه المركزيّ بالتعبية العسكرية والسياسية وبالايدولوجية التي تدّعي الحكم.

انّ الديون السياسية، التي وقعت على كاهل المثقفين وهم يديرون ماكنة الاعلام، كانت من الثقل بحيث اضطرت هؤلاء، وهم متوزعون بين مختلف الاتجاهات (الادارة الثقافية، تاليف التعليقات، الشعر الفصيح والعامي، ترويج الشعارات..الخ) اضطرتهم الى المساومة المستمرة مع الذين يُعتقَد انهم مسؤولون، وهؤلاء من ناحيتهم لم يقوموا الاّ بالدور نفسه، وقد كان التمثيل ساذجا، لان الابطال يتغيرون تبعا للمراحل، ولكن السلوك النفعي غير النزيه، بميدانه الواسع يبقى هو هو، وهذا السلوك هو الذي يجعل اللاعبين قادرين على الاستمرار في العلاقة بالمسؤولين الذين لا يريدون الانفكاك منها، وفي لحظة ما، ولاسباب قد تكون مجهولة للجميع يجد الجميع انفسهم خارج دائرة اللعبة الضيقة ليتجهوا الى دائرة اوسع ومن السهولة ايجاد اعذار وتبريرات لكل مسلك، وخاصّة عند quot;المثقفين اللبراليينquot; الذين اقتطفوا ثقافتهم من هنا وهناك، ولكنّ النتيجة هي: ان العلاقة التي كانت تدام لمدة اطول انّما هي علاقة تقوم على ثقة زائفة، بين الاطراف، أي بعبارة ثانية انها قائمة باصلها وفروعها على اللاثقة، وسيبدا اللاعبون في مرحلة تالية دورا ليس بعيدا عن الاسلوب نفسه، فسهل الانقياد سالفا سيكون سهله انفا، والطائع السابق سيطيع مرّة ثانية، والواثق الزائف سيظهر من جديد، ولكي يبرهنوا على هوّياتهم: فان انتقالهم سيبدو وكأنه ممهَّد له منذ الفترة السابقة ومن العبث البحث في المواقف بالنسبة لهواة التوفيق لان سهولة الانقياد ومعها الطاعة العدوانية والثقة الزائفة تصير كلها حوافز قوة، وهذا ما حصل فعلا بعد الاحتلال الاميركي 2003، ويساعد على ذلك سرعة الانخراط في quot;المشروع الجديدquot; حيث تبدو الملاحقة الارشيفية عقيمة، فمَنْ يا ترى يلاحق مَنْ؟ الّا ان التزييف الذي تعرض له المجتمع هو ما يقوم بوضع الاغطية وما يكشفها: الطائفية او الاستغلال الطائفي، العنصرية او المنظمات والاحزاب وما يداخل ذلك من فساد. (اعمى يقود ضريرا لا ابا لكمُ..)

ان المساومات التي تقوم عليها المجتمعات، باعتبار هذه الاخيرة ضرورة، تصير اختيارا وبالتالي تحوّل المجتمع بقدرة قادر الى حلبة للاختيارات الزائفة، أي لايعود مجتمعا من حيث كونه صورة للضرورة، وفي هذه الحالة فأن quot;النظرياتquot; المرتجلة الكثيرة جدا اخذت تدّعي مزاحمة الواقع لتحلّ محلّه، وهذا الفهم لدور النظرية، وعدم عزلها اجرائيا عن الواقع، يكون بمثابة مصادرة تؤدي الى الالتباس، فيتحدث المثقفون - كما يحصل الان كثيرا- عن الواقع باعتباره مخلوقا نظريا. وهولم يكن كذلك، فالنظرية تنتظر طويلا لتصل الى واقع مامول ولكنها لن تكون باي حال من الاحوال بديلة عن الواقع ومبادئه. ولكن الحاح السلطة التي تراكمت بسرعة والتي تريد ان تتوهم التوازن في نقائصها يدفع باتجاه ان ينفخ النظريون في صورة السلطة. فهي تحتاج الى هؤلاء النظريين لتكتسب الزمان والمكان مرة واحدة، وليس باعتبارهما وسيطين من بين الوسطاء الذين يمكنهم ان يلعبوا دورا في تفكيك السلطة وتوصيلها بالمجتمع من الناحية النظرية والعملية، لكن حياة النظرية اطول في سياق التفكيك وهكذا تقوم الثقة الزائفة باختصار كل شئ على حساب النتائج.
تطلب مراكمة السلطة من المزيفين ان يطمئنوها بكونها هدفا اعلى، ضمن تطلعات المجتمع، ولا تحتاج ان يقوم هؤلاء بتذكيرها بالاليات والاجهزة والمراتب الضرورية لتحقيق الاهداف فهي تستمرئ هذه الخديعة العمياء وهؤلاء لا يعنيهم الا الاستمرار في انتاج الافكار الطارئة في الاوقات الراهنة مهما كانت عصيبة والتي لا تستوعب حاجاتها الّا الافكار الاستراتيجية.

كانت الاهداف المعلنة ابان سنوات حكم البعث الثاني ميدانا للالعاب اللفظية الخطيرة التي حققها الشعراء والكتاب الذين تحلوا بالثقة الزائفة، حتى ان احد الكتاب المخضرمين كان يصر على انّ العراق ليس في مرحلة الاشتراكية فقط انما هو في تضاعيفها، والى اخره من الهراء، وكان اولئك احرارا في تحقيق الاهداف اعلاميا نيابة عن الواقع وبالرغم منه، وكان الحكم يقبل بذلك وهو يتلمّظ. اما الان، فان الحرية التي هدفها اشاعة الحياد السياسي بعد 9/4/2003، هي الفرصة التي لا معدى عنها للحديث عن العملية السياسية، وفصل السلطات، والخ.. ولكن كل ماله علاقة بمستقبل ما بعد حكم البعث مؤجل للطوارئ، فليس هناك من قوة للتشريع، او لقوانين تداول السلطة، والذي يحكم بالفعل هو الفرصة لتلقف المنافع، مع الاعلان الذي لا يكلّ ولا يملّ عن العملية السياسية وتاسيس الديموقراطية، هذه الديموقراطية التي لم تستطع وهي فتية من جذب الناس اليها، فقد بقوا اشدّ انجذابا الى طوائفهم وقومياتهم والخ.. اما الديموقراطية فهي اخر شئ يجذبهم غير انها في الحالة هذه اكثر جاذبية للمزيفين، ويستطيعون ان يتفقوا جهارا نهارا على خلاف الحقيقة (قد يعرف القارئ ان الخلاف بين شخصين حول جمع 2+2 فاحدهما يقول ان الحاصل اربعة، والاخر يدعي انه خمسة، ولكنهما يتفقان على ان الحاصل هو اربعة ونصف.. وتسير الامور الى النتائج التي ستترتب على هذا الرقم الزائف..).

ان التوافقات هي تنظيم جدي كان حصيلة التجربة الديموقراطية في ظروف اجتماعية وسياسية وجغرافية، وكانت العدالة (النسبية) هي التي تقود الى الحل دائما (كما في التجربة الاميركية حول الوزان التمثيلي الذي لم يكن يخلو من التعقيد في اوّل امره).
وبما ان الصيرورات معرَّضة للاقلاق، وخاصة بعد الظروف المفتعلة (كلاحتلال الامريكي)، فان من الواجبات الوطنية ان يكون اصحاب القرار السياسي غير غافلين عن الظرف الاستثنائي الذي يتم اتخاذ قراراتهم فيه، فليس ان ياخذ مواطن حقه معناه ان يسلب مواطنا اخر حقه، وهذا ما تفعله الظروف الاستثنائية، ولكن القرار المصيري بدافع المسؤولية المعيَّنة يتجنب هذا التعسف، ويصير من الواجب ان يكون الحذر في اقصى درجاته في مثل هذه الحال، والا فان الثقة بالديموقراطية تكون زائفة لانها لاتصيراكثر من اصطياد لفرصة، وتقود لا محالة الى مراكمة السلطة والمحاولة مجددا للتوازن في النقائص، ثم الادعاء بعكس ذلك، كما نعرف القصة القديمة التي لاندري اننا نكررها، ففي طريقنا نحو الحرية نقوم بسلب حقوق الاخرين. ان علينا ان نتوقف وننظر الى تجربتنا دائما ونحاول حماية اصل التجربة، أي تصحيح الاوضاع والتشكيك في الاغلاط نسير نصف الطريق ويسير الاخرون النصف الثاني، ونبتعد عن التجربة قليلا او كثيرا، نتداول السلطة، طوعا بحكم القوانين، نبتعد لنقترب، نبتعد كحاكمين لنقترب كمواطنين. بهذا (الذي تسميه حنا ارندت نقطة ارخميدس) نتخلص في حدود الممارسة السياسية من الثقة الزائفة، نتخلص من لحظة صيرورة لندخل في لحظة ثانية من الصيرورة.ان المنعطف الحاد سيكون مناسبة للاحتكاك الحاد وهنا تتجلى الوساطة من حيث هي الامر الذي لا غنى عنه. سيكون الزمان وسيطا والمكان ايضا. وفي اللهفة نحو التسرع لابد من وجود متمهلين. ان اللوحة النظرية واسعة، فيها دأب وتشريح، ولكن ذلك نظريٌّ طويل الانفاس ودقيق، يفكك ويعيد التركيب مثل الدخول الى اجزاء الساعة الاجتماعية التي اقترحها هوبز وعمل عليها هو وغيره، وقد ينتظر العمل ثلاثة قرون ليباشر اجراءاته، كما حصل في بعض بلدان اوروبا، ولكن ليس علينا زج النظرية مباشرة في العمل. ان ذلك مخيّب. وهذا هو شان الثقة الزائفة اذا دسّت انفها في الشان العام خلال الظرف الاستثنائي، الذي لابد ان يخرج من استثنائيته ليتفرغ الى ما هو مصيري، او طبيعي، اذا اخترنا لفظا مشجعا لا مخدّرا.

ان ما ينبغي على العراقيين ان يعلموه اليوم، والّا ينسوه هو ان من بيدهم السلطة واغلب معارضيهم، انما حازوا ذلك بسبب الاحتلال ومناسبته وان الخطوات التي يخطونها ليجدوا هويتهم المستقلة متعلقة بايقاظ المواطنة، وتكافؤ الفرص، والكفاءة، بالديموقراطية، بالفرصة الديوقراطية، وكل ثقة بالمنصب وحده انما هي ثقة بدخانه (اي انها ثقة زائفة) كما قال احدالقضاة المسلمين هذا الدخان الذي نشمه الان، على انه: الوضع الامني.. الخدمات.. اللااقتصاد.. القلق السكاني..الخ هذا الدخان ينبعث لان هناك فكرة ضيقة محدودة عن الحكم باعتباره اقتناصا لفرصة كانت ضائعة وانه مرادف للاستمرار في الحكم وليس هو الحكم. وفي الديموقراطية ليس هناك من ضياع للفرص فقط واقتناص فحسب.لانها (الديموقراطية) هي الفرصة الوحيدة للمواطنين وليس للحكام وحدهم، ومن الملائم ان يعاد التذكير دائما بان الوعود، وبضمنها الديموقراطية، انما هي نسبية، وهي ايضا مقالات ظروف ولن يكون معناها ان تلغي الثقة الزائفة واثامها بالتمام..ولكن في حالتنا.. نقبلُ باقلّ الحالات سوءا... ها؟ والّا... فانquot;المخلّصquot; لن ينتظرطويلا وسيكون أسوأ من كل ما مرّ بنا من سوء.

ان كل منصب تقريبا في الحكم العراقي الحالي له مدخنة من اعلاه ومدخنة من اسفله، لاتسمحان لعموم المواطنين، اذا تاكدوا من حيازتهم هذا اللقب، ان يتعرفوا على علاقتهم بالوظائف، لانها مهترئة، وفي الغالب زائفة، يروّج لها او ضدها مثقفون ينتقلون من هنا الى هناك على عجلات المنافع المدخولة، والسلطة كما نعرف هي بحاجة دائمة الى امثال هؤلاء واولئك للبرهنة على انها موجودة، بغض النظر عن المحتوى الاخلاقي والموضوعي للوجود، ولا اقول بغض النظرعن الدرس التاريخي، لان التاريخ البعيد والقريب غير مشمول الان باختبار المقارنة، اما المستقبل فان الكثيرين يحتفلون بمحاولات طرده مرارا وعلى رؤوس الاشهاد.