الشعوب العربية بصورة عامة عصية على الإصلاح، ولكنى سأقتصر بكلامى على الشعب العراقي الذى انتمى اليه. لقد شبعنا الى حد التخمة من الإنتقادات التى توجه الى الحكومات ولا أحد يوجه الانتقاد الى الشعب الذى إختار الحكومات عندما منحها الأصوات اللازمة لدخولهم الى المجالس النيابية التى تقرر من هم الرؤساء. أنا لا أقصد حكومة معينة ولكنى أقصد كل الحكومات التى تعاقبت عليه منذ تأسيس العراق فى العشرينات من القرن الماضى وتتويج فيصل الأول ملكا عليه. كانت ولادة الحكومة الأولى عسيرة، إذ اختلف الزعماء فى حينه، فالشيعة يريدون ملكا شيعيا والسنة يريدون ملكا سنيا. واحتارت بريطانيا وعجزت لفترة عن ايجاد حل يرضى الطرفين، فتقدمت البريطانية غيرترود بيل التى اشتهرت بإسم (صانعة الملوك) باقتراح يرضى الجميع وهو تنصيب فيصل الأول بن الشريف حسين شريف مكة -الذى خسر عرشه فى سورية- والهاشمي النسب السني المذهب، فوافق عليه الطرفان، وانحلت المشكلة ولكن بصورة سطحية، وكما كان يقول اليهودي العراقي (اللى بقلبى بقلبى) اي أنه يضمر غير ما يظهر. أساس المشكلة فى ذلك الوقت كانت تتلخص فى أن زعماء الشيعة كانوا يريدون دولة مسلمة لا تميز بين القوميات بينما زعماء السنة يميلون الى دولة عربية موحدة. وأثبتت الحوادث أن الطرفين كانا على خطأ، وما أرادوه كان من الأمانى التى يستحيل تحقيقها. لم يكن المسلمون ولا العرب فى العراق متحدين فيما بينهم فى أي وقت من الأوقات. الأكراد فى الشمال غمطت بريطانيا حقوقهم فى معاهدة سايكس/بيكو فلم تقر لهم بحق قيام دولة لهم، فقد كان واضحا أنهم يختلفون عن الأمم المحيطة بهم قوميا ولغويا، ولم تكن بينهم وبين جيرانهم مودة حقيقية، وإن وجدت فى بعض الأوقات فإنها سرعان ما تزول عندما يتزعمهم حكام إنفصاليون يثيرون النزعة القومية، فتنشب المعارك ويسقط الضحايا من كل الأطراف. الواقع شيء والتمنى شيء آخر، الواقع يقول : جيران متحابون خير من عائلة واحدة يتقاتل أفرادها على أتفه الأسباب. إن جعل شمال العراق الكردي إقليما ما هو إلا قرص من الأسبرين يزيل الصداع مؤقتا ولا يقضى على مسبباته. أرجو ألا يتبادر الى الذهن بأنى أدعو أو أشجع على تقسيم العراق، ولكن للضرورة أحكامها، فإن المريض لا يستسيغ الدواء المر ولكن لابد له من شربه لينقذ نفسه من الهلاك. قد تبدوا المشاكل أقل فى وسط وجنوب العراق ولكنها فى الحقيقة أشد تعقيدا. السنة والشيعة يتكلمون نفس اللغة و تأريخهم مشترك، وبينهم حسب ونسب، ولكن يبرز بينهم ايضا من وقت لآخر زعماء سياسيون أو رجال دين يفرقون بينهم. قلة من الزعماء الذين حكموا العراق من حاولوا توحيد الطائفتين ولم يفضلوا طائفتهم على الطائفة الأخرى، وكانت النزاعات بينهما على مستوى فردي أو محلي، ولكن مؤخرا وبسبب التدخلات الخارجية ومن دول الجوار الطامعة فى العراق، فإن النزاعات بدأت تتطور تطورا خطيرا وتقربنا من حرب أهلية لا تبقى ولا تذر ولن ينتصر فيها إلا الغرباء الذين يتربصون بنا والذين يغذون خلافاتنا ويحرضون بعضنا على البعض الآخر. إننا شعب عصي على الاصلاح، يخيم علينا الجهل منذ قرون عديدة، ولا تكاد تبدو بارقة من الأمل إلا وتخبو، والغرابة كل الغرابة أن السبب الأكبر فى نزاعاتنا هو أننا نقدس أشخاصا عاشوا وماتوا منذ أربعة عشر قرنا، نسبنا اليهم المعجزات والعصمة، ولفقنا عليهم أحاديث لم يقولوها، ونسبنا اليهم أفعالا لم يقدموا عليها، بينما هم انفسهم كانوا متفقين فيما بينهم ويحترم بعضهم البعض، ولكننا تقاسمناهم بيننا كما لوكانوا عقارا ورثناه، واتخذنا منهم ذريعة لنزاعات حمقاء غبية لا تخفى على كل ذى بصر وبصيرة. أي قائد مخلص لشعبه ووطنه يستطيع التقريب بين الطائفتين الى حد ما، ولكنه لن يستطيع عمل الكثير إذا لم يساعده شعبه فى ذلك، فاليد الواحدة لا تصفق، ومن لا يريد أن يسمع أشد صمما من الأطرش بالولادة، إضافة الى تنافس القواد على القيادة حتى بعد انتخاب القائد، فبدلا من مسادنته فى عملية الاصلاح والبناء كما يفعل السياسيون فى البلدان المتقدمة، نجدهم يعيقون العملية او يفشلوها كليا ليثبتوا للشعب فشله وعدم صلاحيته للقيادة ومن ثم عزله ndash;إن استطاعوا- ليأتى أحدهم الى الحكم بدلا عنه، فتبدأ دورة جديدة تشبه سابقتها، ويبقى الشعب يعانى ولا من معين. وهذا هو ما يحدث فى العراق هذه الأيام وكل الأيام التى مرت منذ سقوط حكم البعث. فبالرغم من واردات النفط الهائلة فإن العراقيين ليسوا بأحسن حال عما كانوا عليه فيما مضى عندما كان العراق يحصل على أقل من واحد بالألف عما يحصل عليه الآن. شعبنا هو الذى اختار زعماءه الحاليين حكاما ومعارضين، ولم تعينهم لا أمريكا ولا ايران ولا أية دولة أجنبية أخرى، ولما كانت نسبة الجهلاء بين أفراد شعبنا كبيرة فمن البديهي أن تكون نسبة الجهلاء كبيرة ايضا بين أعضاء مجلس النواب وأعضاء الحكومة. فمثلا لو رشح سياسي بارع كفء نزيه نفسه للنيابة عن منطقة ونافسه معمم لم يكمل دراسته الابتدائية ولا خبرة له بالسياسة او الاقتصاد، فمن تظنون أنهم سينتخبون؟ سينتخبون المعمم الذى يقبلون يده كلما صادفوه. الكل يعلم أن من أعضاء مجلسنا النيابي الحالي من لم يتفوه بكلمة واحدة منذ افتتاح المجلس وحتى اليوم، يتغيب عن الجلسات باستمرار، ولكننا نرى منهم حضورا مكثفا إذا كانت هناك لائحة قانونية لزيادة مخصصاتهم أو منحهم أراض على ضفاف دجلة الخير أو سيارات مدرعة، ومنهم من لم يحضر جلسات المجلس إلا مرات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ويكلف الغير باستلام الرواتب والمخصصات، ولا يتنازل بالحضور إلا عندما يكون مزاجه رائقا. وكما أسلفنا فعندما يختار الشعب نوابه، فهو ضمنيا يختار حكومته التى لا تتشكل إلا بموافقة الأغلبية من أعضاء المجلس، والحكومة لا يمكنها تمرير لوائح لا تحصل على الأغلبية فى المجلس. وهذه هى حال الديموقراطية التى تنعم بها الشعوب المتقدمة، والتى أراها نقمة على الشعوب الجاهلة. بين الفينة والأخرى تطلع علينا الصحف بتصريحات لبعض من شاركوا فى إنتخابات 2010 يتهمون دولة القانون والقائمة العراقية بتزوير الانتخابات، ومنهم من يطالب باجراء انتخابات جديدة. لو فرضنا جدلا أن الانتخابات القادمة ستكون نزيهة وبدون اي خلل، هل يتوقع أحد أننا سنحصل على مجلس نواب يختلف كثيرا عن المجلس الحالي. من يعتقد ذلك فهو واهم ولا يعرف كثيرا عن العراق والعراقيين والعرب معظم الروايات تقول أن كل الأنبياء والرسل بعثوا فى الشرق الأوسط، وان مجموعهم 124 ألف نبي ورسول ذكر القرآن أسماء 25 منهم، أولهم آدم وآخرهم محمد (ص)، وكل اولئك الأنبياء لم يستطيعوا شيئا لاصلاح البشر، وها قد مرت أكثر من 14 قرنا على رحيل خاتم الأنبياء والمرسلين، وما زلنا نسفك الدماء ونرتكب المعصيات ويجور أحدنا على الأخر، ولقد نشبت بيننا حروب كثيرة فى القرن الماضي، ولا يستبعد أحد نشوب حروب أسوأ وألعن من التى سبقتها. قرأت فى أحد كتب استاذنا العلامة العراقي الراحل الدكتور مصطفى جواد، الذى درس أحوال الشرق الأوسط بعمق لم يسبقه اليه أحد، ذكر قائلا : (إن الحياة الانسانية فضلا عن الحيوانية قائمة على الافتراس والعدوان على إختلاف ضروبه وأنواعه). أليس هذا هو ما لمسناه ونلمسه فى كل يوم من أيام حياتنا؟
وبالاضافة الى الخلافات الدينية فقد كانت هناك العشائر التى كان معظم شيوخها مأجورين للعثمانيين وبعدها للبريطانيين ولكل من يدفع أكثر، ولو دققنا في حوادث ثورة العشرين لوجدنا أن بريطانيا وإن كانت متفوقة على الثوار عسكريا، فضلت شراء ضمائر اولئك الشيوخ حفاظا على سلامة جنودها، فتوقفت الثورة، ولكن الثوار لقنوا فيه البريطانيين درسا لن ينسوه عندما فوجئوا بشجاعة ومراس المقاتل العراقي، مما اضطرهم الى تغيير سياستهم، فلم يعودا يعولون على القوة العسكرية وحدها واتخذوا من بين العراقيين من بعض شيوخ العشائر وبعض السياسيين عملاء يساعدونهم فى خططهم الاستعمارية.
مجلسنا فى واقعه مجلس طائفي تتحكم فيه كتل كل منها تريد كل الخير لنفسها وكل الشر لغيرها، والمواطن العادي لا يفهم من الأمر شيئا وقد لا يهتم مطلقا، وكل همه أن يوفر له الأمن والأمان ولقمة العيش ودار سكن لعائلته والخدمات العامة التى يفتقدها منذ أكثر من نصف قرن، وهو يسمع فى كل يوم عن الفساد واختفاء المليارات من الدولارات من خيرات بلده. جرب السياسيين فلم ينفعوه وانشغل المعارضون بالمنافسة على تشكيل الحكومة وراحوا يدقون على أبواب القريب والبعيد لتحقيق أحلامهم، والحكومة منشغلة فى الدفاع عن نفسها، وجرب رجال الدين فلم يحصل منهم إلا على مواعيد فى الحياة الآخرة مما لا يشبع أطفاله الجائعين، ويقولون له : إصبر فان الله مع الصابرين، أو يخبرونه بأن : من صبر ظفر ومن لج كفر!. يطلبون منه الصبر على ماهو فيه من عذاب مقيم، بينما هم ينعمون بعيشة راضية وقد توفر لهم كل ما يحتاجون وما لا يحتاجون.
أجمعين، فنحن قوم مدمنون على التشبث بالأمانى والأوهام ونعتبرها حقائق واقعة، وعندما نقع فى الأخطاء نلوم غيرنا، وما أسرع ما نضحى بكبش او أكباش فداء من بين المستضعفين.
- آخر تحديث :
التعليقات