من مفكرة سفير عربي في اليابان

بعد ثورات ما سمي quot;بالربيع العربيquot;، تنتظر شعوب المجتمعات العربية تحولات جذرية لتحقق احلامها في الحرية، والتنمية الاجتماعية، والاقتصادية. وقد تحيرت بعض شعوب الشرق الأوسط، بعد ما عانته من العنف وشلل الاقتصاد، والتي تبعتها دكتاتوريات مخجلة في القرن العشرين، ليتساءل هل فعلا الثورة الانفعالية الحادة هي الحل، أم الاصلاح المتأني المدروس وعلى نار هادئة هو الأفضل في عالم الألفية الثالثة وبقريتنا الكونية التكنولوجية السريعة التغير؟ وهل ستبداء الحداثة والتنمية في مجتمعاتنا العربية بالإصلاح السياسي أم الإصلاح الاقتصادي الإجتماعي؟ وهل ديمقراطية الغرب برأسماليتها الفائقة وسوقها المحررة من الانظمة والقوانين هي طريقنا لتحقيق التنمية المرجوة في مجتمعاتنا العربية؟
أرجو أن نبدأ حوارنا بالاتفاق على مفهوم مصطلح الإصلاح. فقد تعطي كلمة الاصلاح انطباعا خاطئا بأن الماضي كان طالحا، ولم يتحقق شيء، وجاء الوقت لأصلاحه. وهذا ما لا أرجو أن نتصوره أو نطرحه. لقد أكدت تجارب التاريخ بأن تطور المستقبل يتم من خلال انجازات الماضي، فتطور الحضارة المعاصرة بأكملها اعتمدت على الحضارات الإنسانية السابقة في مصر والعراق والهند واليونان وبلاد الروم والفرس والصين وأمريكا اللاتينية وأوروبا. فجميع هذه الحضارات ساهمت في ما نعيش فيه اليوم من تقدم وتطور، كما ستستمر تنمية القرن الحادي والعشرين من خلال إنجازات دول العالم في القرن العشرين.
كما أن العمل في مجتمعاتنا العربية لبناء المستقبل اعتمادا على ما تم من انجازات الماضي يحمي وحدتنا من التفتت، ويوجهنا للعمل كيدا واحدة، ونبتعد عن الأسأة وأتهام بعضنا البعض، لنوازن رزانة عواطفنا وحكمة قراراتنا فنحافظ على الوقت الثمين الذي إن لم نقطعه سيقطعنا. كما يجب أن نقدر كل ما تم من بناء وتطور مع التحديات الصعبة التي عانت منها بلداننا من ارهاصات الحكم العثماني والاستعمار وما رافقته من النكبات والحروب. فلنتفهم عزيزي القارئ مصطلح الإصلاح تعبير عن استمرارية التطور من مرحلة الى أخرى مع البناء على ما تم من انجازات الماضي.
وتبين دراسة التاريخ المعاصر بأن الروس بدءوا تغيراتهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بإصلاح سياسي مفاجئ وحاد، ولكن كانت تجربتهم صعبة ومضطربة. بينما بدأت الصين تغيراتها في نهايات القرن العشرين بإصلاحات اقتصادية تدريجية مدروسة وألحقته باصلاحات سياسية متأنية، فاستطاعت المحافظة على وحدة البلاد وتطوير تكنولوجيتها واقتصادها لتنقد الملايين من مواطنيها من الفقر وتتصدر دول العالم كثاني اقتصاد عالمي. وقد نتعلم من هاتين التجربتين، ونستفيد منها لبناء المستقبل، وهنا يساور البعض قلق الإصلاحات الديمقراطية ايضا، بعد الأزمة المالية العالمية لعام 2010 التي لم تترك انطباعا جيدا عن مدى نجاح التجربة التقليدية للديمقراطية الغربية برأسماليتها الفائقة. وقد عبر الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستجلتز الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد، في كتابه الجديد، ثمن اللامساواة، عن مدى فشل ديمقراطية الغرب برأسماليتها الفائقة في القرن الحادي والعشرين بقوله: quot;هناك لحظات في التاريخ حينما يهب سكان العالم ليقول الجميع بأن هناك شيء خطأ، وذلك ما حدث في عام 1848 وفي عام 1968، لتبدأ حقبة جديدة من التاريخ، وقد يثبت التاريخ مرة أخرى بأن عام 2012 من أحد هذه اللحظات البارزة في حياة الانسانية. فقد بدأت انتفاضة الشباب في تونس وامتدت إلى مصر ومنه لبقية دول الشرق الأوسط. وقد أدت شعلة الانتفاضة في بعض هذه الدول لتغيرات اجتماعية متشابكة أطاحت معها دكتاتوريات مزمنة، وبسرعة البرق، ولتتبعها نزول شباب اسبانيا واليونان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة للشارع ولأسباب تخصهم. فقد كان المتظاهرون على حق، هناك تباين فاحش لا يمكن تناسيه بين ما يجب أن يحققه نظامنا الاقتصادي والسياسي، وبين ما تم تحقيقه فعلا. فحكومات العالم لم تعالج التحديات الاقتصادية التي تعاني منها شعوبها في القرن الحادي والعشرين وخاصة ما يتعلق بتزايد نسب البطالة والتضحية بالقيم الانسانية للعدالة، وذلك بسبب حفنة من الجشعين بالرغم من كثرة حديث الغرب عن حقوق الانسان ليصبح الشعور بالظلم شعور بالخيانة.quot;
كما انتقد البروفيسور جوزيف ستجلتز الديمقراطية الغربية بقوله: quot;ولم تعد هناك فرص تعبير من خلال العملية الديمقراطية في دول الشرق الاوسط، مع أن ديمقراطية الانتخابات قد فشلت في الديمقراطيات الغربية، ومع ذلك كان هناك وميض أمل لانتفاضة الشباب في الولايات المتحدة ودول أخرى، ولم تكن انتفاضة دول الغرب ثورية ولا فوضوية بل يعتقد شبابها حتى الان بأن العملية الانتخابية قد تفلح إذا تذكرت الحكومة بأنها محاسبة أمام الشعب. وقد خرج المتظاهرون للشارع للدفع بهذه الانظمة الغربية للتغير، فرفع المتظاهرين في الولايات المتحدة شعار من 1% إلى ال 1% وبواسطة ال 1%، وقد برزت هذه العبارة في المجلة المشهورة انتي فير، لتعبر عن مدى اللامساواة في بعض المجتمعات الغربية بأن 1% من الشعب في القمة يملكون بقدر ما يملكه 99% من عامة الشعب، ويسيطرون على قرارات الشعب في برلمانات الغرب المضطربة بلوبياتها المأجورة وبديمقراطيتها المستباحة. فهناك نسبة 40% من البطالة بين الشباب الاسباني، بينما يحقق مدراء البنوك علاوات خيالية في بنوك مفلسة ومعتمدة في بقائها على تريليونات من الدولارات من الاعانة الحكومية، والتي سببت افلاس الكثير من حكومات الغرب. والجدير بالذكر بأن عملية اللامساواة وصلت لحد بأن تملك عائلة أمريكية واحدة ما يملكه 110 مليون من الشعب الامريكي، كما أن هناك أكثر من أربعين مليون فقير وستة وأربعين مليون مواطن أمريكي محروم من التأمين الصحي في دولة تعتبر أول اقتصاد عالمي.quot;
ولنتذكر عزيزي القارئ بأن التفكير الثوري الانفعالي المتميز بهدم الماضي، فشل خلال العصور أن يبني على الماضي لأصلاح المستقبل، بل ترافق في كثير من الأحيان بأنظمة أسوء. وتؤكد ذلك الخبرات السابقة بالثورات في إفريقيا وأسيا وأمريكا اللأتينية. وقد أكد البروفسور أدوارد دبونو، استاذ علم التفكير بجامعة هارفرد، في كتابه التفكير المتوازي quot;بأن نطبق نظرية إزالة السيئ لتبقى الروائع، سيؤدي للفوضى وقد يتحول الوضع لأسوء من ما قبله.quot; لذلك نحتاج أن نطور التفكير التنفيذي البناء، ونبداء الأصلاح التدريجي اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. وقد نستفيذ أيضا من التجربة اليابانية والتجربة البريطانية في المحافظة على وحدة الشعب من خلال قيادته، والاستمرارية في الحداثة والتنمية وبدون صراعات على رموز وحدة البلاد. فالعائلة الامبراطورية رمز وحدة الشعب الياباني منذ اكثر من الفين وستمائة عام والعائلة المالكة البريطانية ايضا ومنذ قرون طويلة.
وفي خضم هذه التطورات قد نواجه مشكلة أخرى في أختيار نوعية النظام الاقتصادي بين نظام رأسمالي واشتراكي، أو قد نحتاج لطريق ثالث يجمع محاسن النظامين. ويبقى علينا الإجابة على الاسئلة التالية: هل نحتاج لمجتمع يكون فيها حقوق الفرد مكفولة في البيع والشراء؟ وهل سنحتاج لنظام تجاري يوفر البضاعة والخدمة بتنافس عادل ضمن الانظمة والقوانين؟ وهل سنشجع الأبداع بين شبابنا لخلق فئة من الطبقات الشبابية المتوسطة لتمتلك شركات ومصانع صغيرة؟ وهل سنحافظ على المنافسة الحرة المنضبطة لتطوير الإبداع؟ وكيف سيكون وضع الفقير في هذا النظام التنافسي؟ وهل سنوفر رعاية صحية متقدمة وتعليم مجاني متميز؟ وهل سيكون هناك نظام تقاعد وتعطل منصف؟
يقول المثل الصيني: أعطني سمكة ستغذيني اليوم، وتشتري كرامتي، وعلمني أصطاد السمك لتغذني مدى الحياة وتحافظ على انتاجيتي وإنسانيتي وكرامتي. الأعانة هي أهانة للأنسان، فكرامة الأنسان لا تسمح بأن يكون عالة على الأخرين، وكرامة الوطن لا تسمح بأن يكون مواطن في حاجة للمساعدة من مواطن أخر. فالعمل كرامة للأنسان، ويوفر من خلاله حاجياته وكرامة الذات ليبدع ويلعب دورا في أنتاجية بلده وتطور اقتصاده ويقيه من الأقصاء الأجتماعي. والحل أن نطور القوى البشرية بالتعليم والتدريب المستمر للتعامل مع المعضلات من المهد الى اللحد لنهيئ موارد بشرية متدربة ومرنة تستطيع أن تتحمل مختلف أنواع المسئولية مع تغيرات حاجة السوق والتطورات السريعة في تنوع البضائع والخدمات التكنولوجية والتعامل مع تحديات العولمة المتغيرة.
وقد ناقش البروفسور البريطاني أنطوني جدنز المدير السابق لكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، في كتابه الطريق الثالث، الحاجة لطريق آخر بعد ما تجاوزت التطورات التكنولوجية الحلول الاقتصادية والاجتماعية القديمة التي طرحتها الرأسمالية والأشتراكية. ويؤكد بأن الهدف العام لسياسة الطريق الثالث هو مساعدة المواطنين لاختيار طريقهم من خلال الثورة الكبيرة التي نعيشها اليوم بين العولمة والتحولات في الحياة الشخصية والعلاقة مع الطبيعة المحيطه بنا. ويعتقد البروفيسور بأن هناك حاجة لخلق التوازن بين العدالة الاجتماعية والحرية الفردية ولتعريف جديد للحقوق والواجبات، كما يؤكد بأن لا حقوق بلا واجبات ولا سلطة بلا ديمقراطية. بل بأن هناك ضرورة لإعادة مجتمع القيم والأخلاق والمحافظة على تناغمه مع الطبيعة. كما يصر على ضرورة معرفة كيفية التعامل مع العولمة والتطورات العلمية والتكنولوجية المرافقة لها، وأهمية فلسفة المحافظة على الثقافة المجتمعية والتقاليد المنظمة، بالإضافة لأحترم الإجماع العالمي وعدم الشذوذ عنه. وضرورة الاهتمام بتوفير الخدمات الاجتماعية من خلال تأمين الصحي للمواطنين وضمان للتعليم وإصابات العمل والبطالة والتقاعد.
وقد أظهرت الاستطلاعات الغربية بأن هناك رضى شعبي بالنظام الديمقراطي اللبرالي وبنسبة 90% بين الشعب الأمريكي والأوروبي، مع أن الجميع يطالب أيضا بضرورة تطوير الديمقراطية. فقد بينت الاستفتاءات الشعبية بالانخفاض المتزايد في ثقة الشعوب ببرلماناتها بعد أن تحولت لمجالس أيديولوجية ومواقع للوبيات الشركات العالمية العملاقة. ويقترح البروفسور جدنز رؤية مستقبلية للتعامل مع التحديات القادمة، ليؤكد على ضرورة تالف الحكومات مع عالم العولمة والتحولات الجديدة في تكنولوجية الاعلام والسياسة، وبأن تجدد شرعية السلطة على اسس ايجابية، وديمقرطة الديمقراطية باللامركزية، وضرورة ربط قرارات الحكومات ليس فقط بالوضع المحلي بل أيضا بالأوضاع العالمية. كما يقترح بالحاجة لزيادة الشفافية وتحديث الدساتير والانظمة، وزيادة كفائة الحكومة وإهتمامها بالتخطيط وتقليل مسؤلياتها التنفيذية. وضرورة نقل قطاع الخدمات للقطاع الخاص مع تنظيم تأمين الخدمات الاجتماعية في الرعاية الطبية والتعليمية والتقاعد وحالات البطالة المؤقتة. ويؤكد البروفيسور الحاجة لتفكير مبدع يخترع مفهوم جديد للحكومة ومسؤلياتها، وطرق تقوية كفاءتها أمام سلطة السوق، وطرق لتطوير التواصل المباشر بين الحكومة وافراد الشعب، وذلك بنوع من الديمقراطية المباشرة، والاستفتاء الالكتروني لدراسة القرارات الحاسمة مع الشعب. السؤال الملح هل سيختار وطننا العربي طريقه الثالث لينمي اقتصاده ويطور مجتمعاته ويحافظ على قيمه وتقاليده وثقافته وأخلاقياته، ليستطيع التعامل مع تحديات واقع العولمة الجديد، مع المحافظة على السلم والاستقرار والأمن والأمان؟

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان