بدأ حكم المماليك في مصر في نهاية الدولة الأيوبية في عام 1250 ميلادية وبدأ تدهور دولة المماليك في مصر والتى إنتهت بإستيلاء السلطان سليم الأول على مصر عام 1517 ميلادية لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ مصر، ومنذ 1250 م وحتى 1798 م (تاريخ الحملة الفرنسية على مصر) أي حوالي خمسة قرون ونصف، ظلت مصر منقطعة تقريبا عن العالم الخارجي (بإستثناء لحظات مضيئة في هذا التاريخ مثل موقعة عين جالوت عام 1260 م والتى هزم فيها الظاهر بيبرس المغول القادمين من الشرق) وإستمرت عصور الظلام هذه تحت حكم المماليك والعثمانيين حتى حضر نابليون بحملته عام 1798 وظهر جليا الصدمة الحضارية للمماليك الذين خرجوا للدفاع عن القاهرة ضد حملة نابليون راكبين خيولهم وحاملين سيوفهم المذهبة وفوجئوا بدانات مدافع نابليون وجنوده تهبط عليهم من السماء ففروا هاربين وهم يهتفون الهتاف المشهور: quot;ياخفي الألطاف نجنا مما نخافquot; وبدأ عصر التنوير في مصر، ونابليون لم يأت إلي مصر حبا في سواد عيون المصريين أو رغبة منه في تنوير المصريين ولكنه حضر لتوسعة ملكه وأن يستولي قبل إنجلترا على بلد مهم مثل مصر تقع بين أوروبا وآسيا وأفريقيا ولها تاريخ عريق، أما التنوير الذي أحدثه نابليون في مصر فهذا لا يمكن إنكاره فيكفي أن إكتشاف العلماء الفرنسيين لحجر رشيد مكن العالم كله من فك طلاسم الكتابات الفرعونية ومعرفة تاريخ مصر القديمة ويكفي المدارس والمستشفيات والطرق التى أنشأتها الحملة الفرنسية، كما يكفي الأنظمة الإدارية والحكومية التى أتوا بها، لذلك كانت نقلة حضارية مذهلة بقيت معنا حتى اليوم وكانت سببا رئيسيا في تميز مصر عن جيرانها ثقافيا وحضاريا وعلميا، وأحدث نابليون وجنوده في ثلاث سنوات ونصف ما عجز عن تحقيقه حكم المماليك والعثمانيين لمدة خمسة قرون ونصف والمذهل أن المصريين لم يطيقوا حكم التنوير لمدة ثلاث سنوات ونصف وتحملوا حكم التخلف لخمسة قرون ونصف، والسبب أن المماليك والعثمانيين حكموا بإسم الدين أما نابليون (الغير مسلم) فحكم بإسم العلم والتنوير، رفضوا حكم ثلاث سنوات لإختلاف الدين رغم أن نابليون وحملته لم تكن حملة تبشيرية دينية مثل حملات الصليبيين مثلا. وهذا يثبت أن حكم المصريين سهل جدا بإسم الدين.

ثم جاء محمد على (الغير مصري، ولكنه مسلم) بناء على طلب مشايخ وأعيان مصر في عام 1805 ليستكمل البناء بالإنفتاح على العالم وعلى الأسس التي تركتها حملة نابليون، وكان أول أعماله هو القضاء على المماليك في مذبحة القلعة الشهيرة، وإهتم بالتعليم وبالصناعة وبالري والزراعة، وأنا أعتبره أهم من حكم مصر منذ عهد الظاهر بيبرس عام 1260 ثم جاء من بعده أولاده وأحفاده والذين إستكملوا خطة جدهم وإن كانوا أقل طموحا من جدهم، ورغم ذلك إستمرت مصر في الإرتقاء ثم جاء حكم العسكر في مصر بقيادة عبد الناصر وإستمر التنوير والتطوير وإن أنحرف عن مساره لأسباب عديدة ليست موضوع مقالي هذا، حتى كانت ثورة 25 يناير 2011 والتى كانت ثورة شعبية بحق، رغم ما إنتهت إليه حتى الآن، والموضوع هو، ماهو خطأ مرحلة التنوير والتى إستمرت من 1805 وحتى 2011، ولماذا لم تصبح مصر مثل اليابان والتى بدأت نهضتها بعد نهضة محمد علي بقليل ، وأنا لست مؤرخا لكي أعرف السبب ولكني سوف أحكي لكم تجربة شخصية قد تعطينا مفتاحا لحل تلك المعضلة، وهي لماذا تدهورت مصر وتقدمت اليابان؟
جاء والدي ووالدتي من قرية في وسط الدلتا لا تبعد عن القاهرة أكثر من ساعة ونصف بالسيارة، وأنا من مواليد القاهرة ولم أعش في الريف سوى مرة واحدة ذهبنا لقضاء أجازة صيفية هناك ورغم أني كنت طفلا صغيرا إلا إني ذهلت من البدائية التى كانت تلك القرية تعيشها، رغم أني ولدت وترعرعت في حي مصر القديمة، ولكن القرية بالنسبة لي كانت بدائية جدا، فلم يكن هناك كهرباء ولا مياه نظيفة ولا حمامات في البيوت ودورات المياه كانت عبارة عن حفرة في الأرض ولم أكن أعرف ما يفعلون بالمخلفات، والبيوت صغيرة وبدائية وكانت تعيش البهائم في زريبة ملحقة بالبيت، ولم يكن بالقرية مدرسة أو مستوصف أو تليفون أو أي نوع من الخدمات، وكانت الالات الزرعية التى يستخدمونها هي الآلات نفسها التى إستخدمها أجدادنا الفراعنة في الزراعة، الأطفال كان معظمهم حفاه وأشباه عرايا تري الذباب يعيش على جفونهم الشبه مغلقة من أمراض العيون والترعة بأمراضها هي ملعبهم ومكان أستحمامهم وأيضا يقضون فيها حاجتهم أحيانا سويا مع البقر والجاموس والأوز والبط، والناس كانوا قانعين وراضيين بحياتهم لأنهم لم يعرفوا أفضل من هذا.
وحدث أنني بعد عشر سنوات من تلك الزيارة الصيفية إلي قريتنا، ذهبت لأعمل في ألمانيا في أجازة صيفية عندما كنت في كلية الهندسة، وذهلت عندما زرت قرية ألمانية صغيرة خارج فرانكفورت، في تلك القرية وجدت المياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق والمدرسة والمستشفي والسينما والمسرح والحديقة العامة ومكتب البريد والنادي الرياضي، وقارنت تلك القرية بقريتنا في الدلتا، وعرفت أحد الأسباب الرئيسية لتخلفنا، وتأكد لي الأمر عندما تعددت سفرياتي لدول العالم المتقدم في أوروبا وامريكا الشمالية، فوجدت أن القرى الصغيرة هي صور مصغرة من المدن الكبيرة وأن أهلها يحصلون تقريبا على معظم خدمات المدن الرئيسية بل ويتميزون عن تلك المدن الكبيرة بالهدوء والنظافة، لذلك عرفت أن تلك الدول تتقدم لأن قراها ومدنها تتقدم سويا، والأمر لا علاقة له بالغنى أو الفقر لأنني زرت قرى فقيرة جدا في قبرص واليونان وإيطاليا وأسبانيا ووجدتها صور مصغرة من الحياة المتمدنة.
لذلك فقد إكتشفت بأن أهم خطأ في تقديري هو الإنفصال المذهل الذي حدث في مصر بين أهل النخبة المصرية في القاهرة والإسكندرية وعامة الشعب وحرافيشه في القرى، فحمد علي بدلا من أن يهتم بمصر القرية مثل إهتمامه بمصر المدينة وجدناه يهتم بفتوحات ومغامرات عسكرية لم تنفع مصر بأي شئ، ولم يقتصر إهمال محمد علي باشا على القرية ولكن من نفس تلك القرية حصل على ميزانيته وعلى جنوده الذين زج بهم في حروبه ومغامراته، فقد كان الفلاح إبن القرية محروم من أي خدمات تذكر ولكن كان عليه دفع الضرائب وإرسال أولاده لحروب لا يعرف سببا لها.
ثم جاء أولاد وأحفاد محمد علي ففعلوا نفس الشئ، فرأينا إسماعيل باشا يبني الأوبرا المصرية تضارع أوبرا باريس ويبني كورنيش الإسكندرية وفي نفس الوقت لا يهتم ببناء أي خدمات في القرى المصرية المهملة والتي يشكل سكانها معظم سكان مصر.
حتى عندما جاء عبد الناصر وحصل على شعبية فاقت أي زعيم آخر حتى أن البعض أعتبره أول مصري يحكم مصر منذ نهاية عصر الفراعنة، وشعر المصريون بأنه أخيرا يحكمهم واحد منهم، إلا أنه كان يهتم بالمظهر دون الجوهر وإعتقد أنه بأخذ الأرض من أصحاب الأراضي وتوزيعها على بعض الفلاحين يكون بهذا قد أهتم بالقرية، ولكن حتى وفاة عبد الناصر بقيت قريتنا على حالها منذ تركها جدودنا الفراعنة، وإهتم عبد الناصر بمغامراته العسكرية في آسيا وأفريقيا ودول العالم الثالث، وكان يهتم بإستقلال سنغافورة والكونجو أهم من أهتمامه بأحوال قريته بالصعيد (بني مر) كما أهتم بالدعاية والبروباجاندا أكثر من إهتمامه بأرض الواقع، وسمعنا عبد الحليم حافظ (مطرب الثورة) يغني من شعر صلاح جاهين (شاعر الثورة):
تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا
وكان أجدر به أن يطالب:
بمياه نظيفة ع الترعة ومدرسة
لذلك إهتم حكام مصر منذ عصر محمد على وحتى عهد مبارك بالمدن الرئيسية وأهملوا القرى والأحياء الشعبية إهتماما مخجلا، حتى أن كلمة quot;الفلاحquot; أصبحت شتيمة، وكلمة quot;بلدىquot; أصبحت شتيمة فأصبحنا نقول أن :quot;ده واحد فلاح ذوقه بلدي قوىquot;!! رغم أن الفلاحين وأولاد البلد هم الغالبية الساحقة للمصريين، لذلك شاهدنا أهل الريف يغزون المدينة بحثا عن الرزق والخدمات الأساسية (مياه وكهرباء وصرف ومدارس)، وبدلا من أن نقوم ب quot;تمدينquot; الريف جاء أهل الريف وقاموا ب quot;ترييفquot; المدينة، وما نشاهده اليوم في المدن من مظهر للفوضي هو نتيجة منطقية للصرف على المدن الرئيسية على حساب الريف فإنتقم أهل الريف وقاموا بتحويل مصر كلها إلي قرية كبيرة فوضوية بنجاح منقطع النظير.
وحدث فجأة بعد هزيمة 1967 أن عادت التيارات الدينية للظهور مجددا بعد ضعف عبد الناصر نتيجة الهزيمة وبدأنا نسمع بأننا هزمنا لأننا بعدنا عن الدين، وأصبحت شعبية الشيخ الشعراوي تنافس شعبية أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وفي نفس الوقت بدأ الأخوان في إعادة بناء قواعدهم في القرى والأحياء الشعبية المهملة وقدموا خدمات بأسعار رمزية في تلك المناطق، حتى أن الزلزال القوي الذي ضرب مصر في عام 1992 ظهرت كفاءة الإسلاميون بقوة وأدوا خدمات للناس فاقت الخدمات الحكومية. وإستمرت خدماتهم في التصاعد حتى كان عام 2005 عندما حصدوا %20 من مقاعد البرلمان رغم عدم نزولهم في كل الدوائر ورغم التزوير الذي حدث في العديد من الدوائر، وكان حكم مبارك من الغباء بحيث لم يفهم الرسالة والسبب، وبدلا من أن ينزل حزبه للشارع والقرى قاموا بتزوير إنتخابات 2010 بشكل مخزي الأمر الذي أثبت أن حكم مبارك قد إنتهى.
ثم كانت ثورة 25 يناير 2011 ورغم أن الأخوان لم يبدأوها إلا أنهم عندما إشتركوا فيها أعطوها بعدا آخرا ولم تكن لتلك الثورة أن تنجح بدونهم (ولم تكن أيضا لتنجح بهم وحدهم) ولكنهم لأنهم أكثر تنظيما حصدوا النتائج ونحن في تلك الحياة كأفراد وشعوب نحصل دائما على ما نستحق.
وبالفعل بعد قرنين من التنوير أخيرا جاء ناس من الشعب والقرية وحصلوا على الحكم، والسؤال الآن هل سيكرر الأخوان أخطاء قادة التنوير ويهملون القرية على حساب النخبة التى تعيش في القاهرة والإسكندرية، وهل سيستمر إنقسام مصر إلي نخبة تتمتع بكل شئ وإلي حرافيش وفئات مهمشة محرومة من كل شئ؟؟
الكرة الآن في ملعب الأخوان للأجابة على هذا السؤال، هل سيستمرون في quot;ترييف المدينةquot; كما هو الحال الآن أم يحققون حلم من إنتخبهوهم ويستطيعون quot;تمدين القريةquot;؟