quot;في أي حرب بين الإنسان المتحضر والهمجية ادعم الإنسان المتحضر. ادعم إسرائيل واهزم الجهاد.quot; هكذا ظهر الملصق الذي مولته المبادرة الأمريكية للدفاع عن الحرية والذي بدأ وضعه على جوانب الحافلات وفي محطات وأنفاق عدد من المدن الأمريكية ومنها نيويورك وشيكاغو. واجهت الجهة الممولة للملصق صعوبات كبيرة للحصول على تصريح لوضعه في الأماكن العامة بعدما رفضت هيئة النقل بنيويورك في البداية قبوله في محطاتها وأنفاقها. لكن الجهة القائمة على توزيع الملصق قامت باللجوء إلى القضاء لإلزام الهيئات الأمريكية بالسماح بوضعه في الأماكن العامة. وبالفعل سمح القضاء الأمريكي بخروج الملصق إلى النور التزاماً بنص التعديل الثاني من الدستور الامريكي المتعلق بالحريات والحقوق.

اعتبر العرب والمسلمون الملصق إهانة عنصرية لهم وهاجموه وطالبوا بمنعه، ولكن أحداً لم يستجب لنداءاتهم في بلاد ترى في الحرية المطلقة السبيل الوحيد لحماية حقوق الإنسان. وفي رد على الملصق قامت بالأمس ناشطة مصرية تدعى منى الطحاوي بمحاولة مصورة لطمس الملصق الموجود بأحد أنفاق بنيويورك. غير أن ناشطة أمريكية مؤيدة لحملة ومضمون الملصق واجهت محاولة الطحاوي واستدعت رجال الأمن الذين القوا القبض على الناشطة المصرية لبضع الوقت قبل أن يفرجوا عنها.

جوزيف بشارة

لم تكن محاولة الطحاوي طمس الملصق موفقة لعدة أسباب منها أن طمس الملصق اعتداء على حرية التعبير وتخريب للممتلكات ورفض لقرار قضائي، فضلاً عن أنه، أي التعرض للإعلان بمثل هذه الطريقة، يؤكد على مدى ضيق صدور العرب والمسلمين بالحريات وحقوق الأخرين في التعبير عن أراء مختلفة ومخالفة. كان من الأفضل للطحاوي أن ترد على الحملة بطريقة متحضرة عبر القيام بوضع ملصق مقابل يعبر عن رؤيتها ويسمح للمواطن الأمريكي العادي وغير المنحاز معرفة الرأي الأخر بموضوعية.

يضع الملصق من جديد مسألة حرية التعبير والمدى الذي يمكن أن تصله في صدارة القضايا التي تشغل البال هذه الأيام. المسألة جد خطيرة وتتطلب تعقلاً شديداً في التعاطي معها. فلا الحرية تعني إهانة الأخر أو التحقير منه، ولا كبت الحريات وقمع الرأي الأخر بالأمر المقبول مهما كان التدني ومهما بلغت كانت الدناءة. العرب والمسلمون ينظرون للملصق بحساسية شديدة، بينما يرى الأمريكيون وبخاصة المهتمين بالدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان أن ما طال بلادهم ومواطنيهم من ويلات الإرهاب باسم الإسلام يدفعهم دفعاً لمحاربة الجهاد الذي يستخدم العنف والقتل والترويع.

لست اعتقد أن مؤمناً حقيقياً بالإنسان وحقوقه وحرياته يقبل بجهاد من عينة اعتداءات سبتمبر 2001 في نيويورك أو مارس 2004 في مدريد أو يوليو 2005 في لندن أو غيرهم من الأعمال الإرهابية التي راح ويروح ضحيتها الأبرياء. هذا أمر محسوم. وإذا كان علماء المسلمين يؤكدون بعد كل عمل إرهابي على أن الإرهاب لا دين له وأن الإرهابيين الذين يرتكبون الجرائم التي يروح ضحيتها أبرياء في أية بقعة من بقاع العالم غير مسلمين، فلست أرى ما يستدعي الغضب العربي والإسلامي من الإعلان الأمريكي الذي يحارب الإرهاب. ربما كان من الأحرى بهم الاستمرار في التأكيد على رفض المسلمين كل أعمال الإرهاب والعنف.

من المؤكد أن هناك أغراض أخرى في أنفس القائمين على الإعلان ومموليه مثل تأييد إسرائيل في صراعها مع إيران، خاصة وأن العملية العسكرية الإسرائيلية ضد المنشآت النووية الإيرانية تبدو وشيكة في ظل الأنباء المتواترة عن قدرة إيران على تصنيع رؤوس نووية خلال شهور قليلة. ولكني أحسب أن الكثيرين من العرب والمسلمين السنة يعارضون أيضاً امتلاك إيران الشيعية لأسلحة دمار شامل ويتمنون لو تم تحديد قدراتها النووية. ومن المؤكد أن التأييد غير المحدود الذي يظهره الأمريكيون، وبخاصة اليمينيين منهم، لإسرائيل لا يبرر الاعتداء على الإعلان ولا يجب أن يمنع العرب والمسلمين من إعلان تأييدهم للحملات المناهضة للإرهاب والعنف المتمسحين بالدين.

لقد جاءت أزمة فيلم براءة المسلمين السيء وأظهرت ردود الأفعال عليها أن أعداداً كبيرة من العرب والمسلمين لا تنحاز للتحضر. كما كان مقتل السفير الأمريكي في ليبيا، والاعتداء على السفارات والقنصليات الأمريكية في مصر وغيرها، ورفع أعلام تنظيم القاعدة والهتاف للإرهابي أسامة بن لادن، من الدول الإسلامية دليلاً على انحياز أعداد غير قليلة منهم للهمجية.

القضية التي نحن بصددها هنا هي قضية مبدأ لا يجب الحيد عنه لأي سبب من الأسباب وتحت أي ظرف من الظروف. الانحياز للتحضر والسلام والحريات هو السبيل الأمثل للتقريب بين الغرب والعالم الإسلامي. لا يمكن بأي حال من الأحوال القبول بتقييد الحريات، فالتقييد لا يحمي في شيء وإنما يخفي العيوب. فليسيء من يهوى الإساءة، وليقف المسلمون، كغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، على صخرة ثابتة لا تزعزعها الرياح والتيارات الجارفة. عندها سترتد الإساءة إلى فاعلها. هكذا يجب أن تكون المعادلة. أما إقناع الأخر بأن الإسلام دين سلام فيكون عبر انحياز المسلمين، بالعمل لا بالقول، للتحضر، انحيازهم للسلام ورفضهم القاطع لكل أشكال العنف، يكون أيضاً عبر الإصلاح ومراجعة الكتابات والتعاليم المتداولة بين الإسلاميين والتي تتعارض كلية مع السلام. الأمر يحتاج إلى وقفة صادقة من النفس، ويحتاج كذلك إلى أعمال تنحاز للتحضر وليس فقط الأقوال التي تهديء المشاعر. فأقوال بدون أعمال كالنحاس الذي يطن والصنج الذي يرن، أقوال جوفاء بلا معنى.

[email protected]