يبدو أن الأزمة السياسية ليس لها مخرج على المدى القريب بعد خروج الآلاف من المتظاهرين في وسط وجنوب العراق تأييدا ً للحكومة العراقية مطالبين فيها بأشياء هي بالضد من مطالب المتظاهرين في الأنبار والموصل وسامراء، كتثبيت قانون الإرهاب وعدم إلغاء قانون إجتثاث البعث والتي هي من المطالب المعلنة في المناطق الغربية. حتى أن تدخلات التيار الصدري ومبادرات مقتدى الصدر لم تهدأ من وطئة الأزمة التي تبدو بإنها سياسية أخذت بعدا ً طائفيا ً بسبب هبوط مستوى الخطاب الوطني لدى السياسيين العراقيين الذين تنقصهم الخبرة والحنكة اللازمتان للتعامل مع كم هائل من التناقضات، والذي كما يبدو أيضا ً بأنهم غير ناضجين سياسيا ً وليس لديهم الوعي الكامل بمدى خطورة الموقف.

أن أحد الحلول المتفق عليها بين السياسيين هو الذهاب إلى إنتخابات مبكرة، وإن أختلفت بعض الأطراف في كيفية تطبيق تلك الخطوة من حل البرلمان أولاً أم تقديم الحكومة إستقالتها أو سحب الثقة عنها. أن هذا الحل يبدو هو الأقرب كطريق لتجاوز تلك الأزمة ولكن، ماذا بعد الإنتخابات، إن لم تأت إقامتها بشكل مبكر بشيئ جديد، وطلت علينا نفس الوجوه السابقة بثوب جديد وشرعية راسخة. سأعيد السؤال بصيغة أخرى، هل أن الذهاب لإنتخابات مبكرة سيكون حلا ً ناجعا ً للأزمة السياسية العراقية أم لآ؟ وماذا لو كانت هي الحل الوحيد، ومع ذلك لم يأت بشيء جديد؟

أن أكثر المستفيدين من المظاهرات الآخيرة في الأنبار هو السيد المالكي وقائمته دولة القانون، بالخصوص بعد خروج مظاهرات مؤيدة له في الوسط والجنوب. فهو ظهر كالبطل الذي يدافع عن الشيعة مقابل الأطراف الأخرى والتي بدت وكأنها تريد أن تعيد الأمور كما كانت عليه قبل 2003 في نظر الكثيرين وحجة المالكي واضحة في ذلك من شعارات طائفية وفئوية وأعلام كردية وصور لأردوغان وليس آخراها رفع العلم العراقي القديم وصور الرئيس الراحل صدام حسين. أن المالكي يبدو للبعض كالمختار الثقفي الذي يأخذ بثأر الحسين وهو مرتاح لذلك. ولهذا السبب طرح السيد المالكي حل الإنتخابات المبكرة كأحد الحلول الأربعة التي إقترحها من على شاشة التلفزيون. نعم، هو واثق من نصرة الشارع له وهو واثق أيضا ًمن تجديد ولايته لمرة ثالثة. أما الطرف الآخر فلايبدو بأن الأمور واضحة هناك إذ هناك تشتت وغموض وخلط بين دوافع المظاهرات وطريقتها وشعاراتها والمشاركين فيها وأخيرا ً المطالب المرفوعة فيها. لاتبدو تلك الأشياء منسجمة مع بعضها لتعطي صورة واضحة عما يريده المتظاهرون وكيف يمكن تحقيق مايريدون.

فبداية المظاهرات كانت لأجل إطلاق سراح المعتقلين من حماية العيساوي، وقد نسي هذا الموضوع ولم يتضمن في ورقة المطالب التي قدمها المتظاهرون. تحولت الشعارات الطائفية والفئوية والتي تدعو لإسقاط النظام من قبل البعض في تلك المظاهارت إلى شعارات وطنية ومن ثم رفعت الرايات الحسينية بالوانها المتعددة لدفع شبهة الطائفية عنها. وظهرت هناك خطب رنانة لشيوخ وشخصيات تتحدث بخطاب أقليمي تحريضي لاينسجم مع أي قيم وطنية. أما النقاط المطروحة كمطالب للمتظاهرين فهي غير واضحة، فمنها مطالب حقيقية وأخرى سياسية. فما علاقة رفع الظلم بعملية التعداد السكاني المتضمن الدين والمذهب والقومية لكل فرد، أو أن هناك بعض المطالب تصتدم مع الدستور كإلغاء قانون المسائلة والعدالة، أو مطالب غير واقعية كإلغاء عقوبة الإعدام التي هي بحاجة لنقاش على جميع المستويات ولابد من مراجعته قانونيا ً وأخلاقيا ً وعرفيا ً، حتى أن الكثير من الدول ومنها ولايات أمريكية لم تستطع إلغاء تلك العقوبة بعد سنين طويلة من النقاشات، أو إلغاء قانون الإرهاب وهو قانون سنته اغلب الدول المتقدمة، أو إعادة التحقيق بإحكام الرموز الدينية من جهات محايدة، ولاأعلم من أين نأتي بالجهات المحايدة وأن بعض هذه الرموز من يدعو إلى الطائفية ويحرض على الإرهاب علنا ً في القنوات الفضائية. أن الغريب هو أن تلك المطالب خلت من أي مطلب للخدمات أو تحسين معيشة الفرد الذي يعاني الأمرين من بطالة وقطع للكهرباء وعدم وجود ماء نظيف وبناء للمدارس وغير ذلك. نعم، يوجد هناك تخبط بما يطلبه المتظاهرون لذلك جعل كل من هب ودب يركب موجة تلك التظاهرات كعزة الدوري وبعض شيوخ الإنتفاضات العربية وبعض الكتل السياسية التي فشلت مع المالكي في إدارة الدولة لكسب مزيد من الأصوات. هذا لايعني بأن لاتوجد هناك بعض المطالب الحقيقية والتي يجب تحقيقها عاجلا ً أم آجلا ً كإطلاق سراح المعتقلين من غير أوامر قضائية، ولكن، ما أقصده هو عدم الوضوح والضبابية في المجموع الكامل لتلك المطالب والتي لاينفض إعتصام المتظاهرين إلا بتحقيقها كاملة والذي ينذر بدفع الأمور إلى مالايحمد عقباه.

أذن، المستفيد الأول والأخير من إعادة الإنتخابات هم الأطراف المتشددة من الطرفين، أولئك الذين يرفعون الشعارات الطائفية ويخلطون الماضي بالمستقبل، أو يخلطون كل ماهو إجتماعي أو قانوني بما هو سياسي ويستغلون المتظاهرات التي تطالب بمطالب حقيقية وواقعية لتمرير مشروعهم السياسي. نعم، أولئك الذين يريدون أن ينسجم خطابهم الطائفي مع الخطاب الأقليمي برعاية دول أجنبية من أجل الإنسجام مع مايحدث في سوريا وغيرها من الدول ويبشرون بربيع عراقي ولاأدري ماذا يريدون بهذا الربيع، هل يريدون ديمقراطية؟ فهاهي الديمقراطية بين أحضاننا ولم نعرف أن نستعملها لجهلنا بها، أم هم يريدون أن ينظم العراق لمحور عربي يقاتل من أجل ترسيخ الهوية العربية بشكل يرضي بعض الأطراف الأقليمية، لهذا السبب هم يرفعون شعارات بغداد لن تكون لغيرنا ويقسمون الشيعة إلى عرب وإيرانيين حسب مزاجهم. هذا الطرف المستفيد الأول من هذه الأزمة ومن إعادة الإنتخابات،أما الطرف الثاني فهو ذلك الذي لم يتخلص بعد من إرث الماضي ويحاول أن يحشد الطرف الآخر طائفيا ً من أجل مكاسب سياسية، والذي سخر أمكانات الدولة لخدمة حزبه وصبغها بلون واحد، ذلك الذي يجعل من نفسه حامي الشيعة الأوحد والذي سيدافع عن وجودهم المهدد أمام الهجمة الإرهابية التي يقودها المتطرفون من الجانب الآخر. نعم، سيكون الكاسب الأكبر وسيفوز بعدد من الأصوات ربما أكثر من أصوات المرة السابقة. نعم، هؤلاء هم الرابحون من الإنتخابات المبكرة أما الخاسرون فهو كل الشعب العراقي من شماله إلى جنوبه، فلايتصور أحد بأن أبناء الأنبار أو الموصل فقط من يشعرون بالتهميش والظلم في الخدمات ولكن، ربما جنوب العراق بأكمله مهمل ومهمش ويعاني الأمرين، بالخصوص محافظة البصرة التي تنتج النفط للعراق كله.

مابين هذا وذاك، لايوجد هناك من يحمل مشروعا ً وطنيا ً يوحد الصفوف على المستوى الشعبي، ولاحتى هناك أفكار للم الشمل. أما مايقوم به بعض الأفراد فما هي إلا محاولات فردية ترقيعية منطلقة من دوافع أخلاقية بحتة. ففي السياسية هناك حاجة لأفكار ونظريات مؤطرة بمشروع أيدلوجي ينسجم مع الفكر الديمقراطي ويؤمن بالتعددية والحرية والمساواة. أن مشكلتنا الحقيقية هي في سياسيينا الذين يحشدون الجماهير من أجل الحصول على مكاسب إنتخابية ضيقة على حساب وحدة الوطن.

أن أعادة الإنتخابات في الوقت الراهن، وبنفس قانون الإنتخابات السابق، سيعيد نفس الوجوه التي تحكم العراق الآن وستعود حينها حليمة لعادتها القديمة. ماذا سنفعل بعدها؟ إنه سؤال مفتوح! كان العراقيون ينتظرون تغييرا ً في طبيعة التحالفات السياسية ليتم بعدها تغيير المشهد السياسي في العراق، لكن، يبدو أن تهييج الشارع طائفيا ً هي حركة يقوم بها السياسيون قبل الإنتخابات لتثبيت أقدامهم والحصول على أكبر قدر من الأصوات. والخوف كل الخوف من قمع تلك المظاهرات مادامت سلمية، حتى لو ظهر هناك من يحاول أن يفتز القوات الأمنية ليجرها لضرب المتظاهرين.

أن حل المشاكل السياسية في العراق، وبالخصوص الأزمة الحالية، لاتتم في شوارع المدن بل في الأروقة السياسية. وعلى المتظاهرين أن يحاسبوا ممثليهم السياسيين الذين خذلوهم قبل كل شيئ، وهم جزء من الحكومة التي يشاركون فيها بخجل. أن إلتهاب الشارع العراقي سيعمق الأزمة السياسية والتي ربما سيؤدي لشق الشارع العراقي بعد أن رفع المتظاهرون في مدن العراق المختلفة، في جنوبه وشماله وغربه، شعارات ومطالب تتناقض فيما بينها، إذ تعبر عن رؤى مختلفة عن شكل العراق كدولة وعن طبيعة النظام الحاكم فيه، ولكن، تلك الرؤى المختلفة يمكن أن تتفق على الحد الأدنى والخطوط العريضة في أروقة السياسة من قبل السياسيين الناضجين. ولو خرج المتظاهرون فقط من أجل الخدمات المغيبة بكل أشكالها لخرج كل العراق من شماله إلى جنوبه بلا إستثناء، أما الإنتخابات المبكرة التي يطالب بها السياسيون اليوم فإنها ستعيد المشاكل والأزمات نفسها مادامت العقلية الطائفية والفئوية والعرقية والطبقية والذكورية راسخة في رؤوس السياسيين الحاليين.

[email protected]