التجربة السياسية التي مر بها العراق طوال تأسيسه بعد الحرب العالمية الأولى أثبتت ان الحركة التحررية الكردية كلما طرحت رؤية حكيمة للسلطة الحاكمة في بغداد استقبلت بتضاد ونفور من قبلها وتعاملت معها برفض شديد بعيدا عن اي أساس للمنطق والحكمة والتفكير العقلاني، وعلى العموم كان الرفض منطلقا من باب الاستعلاء والإصرار على فرض سياسة السلطة او الحزب الحاكم مهما كانت النتائج، وقد كان أهم مبادرة للحركة الكردية في سنوات عقد الستينيات من القرن الماضي تضمن النضال من أجل تحقيق quot;الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستانquot; ايمانا بالانتماء للبلد العراقي الذي فرض عليه بفعل سياسة دولية خبيثة قادتها بريطانيا في ايامها بعهد عصبة الامم، وقد دفع الشعب الكردستاني مئات الالوف من الضحايا من أجل تحقيق هذا الشعار الوطني، شعار لم تؤمن بها السلطة الحاكمة في وقتها ولم يكن مقتنعا به حزب البعث الحاكم يومها ولكن مع هذا اضطر الى عقد اتفاقية للسلام مع الكرد سنة 1970 باسم اتفاقية 11 اذار للسلام.

وفي تلك الفترة بدء البعث الحاكم في العراق بالانفراد بالسلطة فضرب الحزب الشيوعي ولم يبق له أثر بفعل تخطيط مدروس من قبل المعدوم صدام حسين نائب الرئيس العراقي احمد حسن البكر في وقتها، وكذلك قام بالقضاء على شخصيات وطنية عراقية بسيناريوهات متنوعة ومنها سيناريو quot;ابو طبرquot; مع الهاء العراقيين بسيناريو مباريات المصارعة الحرة بالاتفاق مع المصارع التجاري عدنان القيسي، وفي ذاك الوقت بدء صدام بالمماطلة في تنفيذ بنود الاتفاقية لاسباب عديدة لكن اهمها التفرد بالحكم.

وحين لجأ البعث بقيادة البكر وصدام الى خيار الحرب مع الكرد سنة 1974 بدأ الحكم المستبد بالترويج لتسويق فكرة المؤامرة الدولية لتقسيم العراق رغم ان المشكلة مع القيادة الكردية كانت قضية داخلية ومتعلقة بحقوق قومية ووطنية وبتثبيت مباديء حقوق الانسان واسس النظام الديمقراطي في البلاد، ولكن مع هذا رفض الحكم البعثي الانصياع للعقل السليم ودفع بالعراق ان يتخذ مسارا اخر بعيدا عن المصالح العيا للعراقيين وهذا ما اوقع البلاد في مخاطر كبيرة وحروب كارثية منها الحرب الايرانية العراقية والحرب ضد الكرد بالانفال والسلاح الكيميائي وحرب الغزو الصدامي للكويت وفي ظل قيادة دكتاتورية وطاغية للمعدوم صدام عانت من قساوتها وعنفها كل المكونات العراقية.

وبعد سقوط صنم الاستبداد سنة الفين وثلاثة وتسليم سلطة الحكم الى اغلبية شيعية بفعل سيناريوهات مرتبة لها انفرد رئيس الوزراء نوري المالكي بالحكم وقام منذ الايام الاولى لتسلمه السلطة بضرب اغلب الاطراف السياسية ومنها القائمة العراقية والتيار الصدري والتحالف الكردستاني، ونتيجة لذلك تولدت أزمات متوالية ومستمرة بين الاطراف المشاركة بالحكم، وخاصة بين تحالف دولة القانون برئاسة المالكي والقائمة العراقية بقيادة اياد علاوي ووجه رئيس الحكومة ضربات موجعة الى القيادات السياسية للقائمة فترسخ بون واسع بين المكونين السني والشيعي، وتحولت الخلافات العالقهzwnj;zwnj; بین بغداد واربیل الی ازمهzwnj; مستمرة بسبب بفعل تجاهل رئيس الحكومة لمطالب الاقليم.

وفي ظل استمرار الازمات واختلال التوازنات وتراجع العملية السياسية، ولجوء المالكي الى الجيش لحل الخلافات بينه وبين حكومة الاقليم، وفي ظل التهميش المتعمد من قبل رئيس الحكومة وقيادات حزبه للسنة ومطالبهم ومحاربة قياداتهم انطلقت انتفاضة الشعب الأنباري ضد القمع والتعسف والتسلط المالكي، ولم يقف التعامل التجاهلي للشركاء والمكونات القومية السياسية عند هذا الحد بالرغم من اندلاع المظاهرات بل قوبلت الاحتجاجات الانبارية بالرفض والتهديد ووصفت من قبل المالكي بانها فقاعة وستزول وبررها بأنها مؤامرة وسيناريو من الخارج لتقسيم العراق، وبهذا التصرف الاستبدادي لرئيس الوزراء سجل صفحة سوداء في التاريخ المعاصر للعراق الجديد المستند نظامه الى الدستور الذي ينص المادة الاولى منه على ان quot;جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ، وهذا الدستور ضامنٌ لوحدة العراقquot;، وبهذه الممارسات والتصورات غير المنطقية للحاكم في بغداد نجد ان اواصر التقارب بين الشركاء وبين المكونات الأساسية بدأت بالتباعد وأخذت تنفك مع بعضها بفعل الرؤية الطائفية للقيادة السياسية الحاكمة باسم بعض المكونات الشيعية السياسية.

ويبدو من خلال تحليل وقراءة الاحداث التي تتسابق في العراق والتي تتم بفعل منطلقات سياسية داخلية وبدفع من تدخلات لدول مجاورة للبلاد، ان السياسة المتبعة من قبل المالكي هي فعلا سياسة تباعد بين المكونات وموجهة للتقسيم على ارض الواقع، وهي بمثابة موت بطيء للعراق الموحد المصطنع بفعل لعبة دولية بعد الحرب العالمية الاولى.

وبالرغم من تناقضات المواقف السياسية للكتل الشيعية الا الاحداث برهنت ان بعضها خاضعة لميزان درجة الحرارة في طهران، وكذلك بالنسبة للكتل السنية فان البعض منها تابع لميزان الحرارة في عواصم بعض الدول المجاورة للعراق، ومن خلال قراءة كل هذه التفاعلات والتدخلات يبدو ان خارطة التقسيم فعلا مفروشة على الارض من قبل اطراف عراقية واقليمية ودولية لتنفيذها في العقد الثاني من الألفية الثالثة، وتبقى مسألة نقلها الى التنفيذ مرهونة بالاوضاع الاقليمية التي تمر بها المنطقة، ويبدو ايضا ان المالكي بفعل اعماله وممارساته السياسية من اشد الحريصين على تنفيذ خارطة التقسيم، والدليل على ذلك انه هو الذي اوصل الخلافات مع الكرد الى خط اللارجعة وهو الذي اوصل العلاقة مع المكون السني الى خط اللاعودة.

والحقيقة الساطعة التي نستخلصها من مسار الاحداث والاوضاع التي مر بها العراق طوال العقود ابتداءا من يوم تاسيسها سنة 1921 الى يومنا هذا، هي ان الكرد كانوا من اشد المدافعين على وحدة العراق، وان الكرد كانوا صاحب افضل رؤية حكيمة لادارة الحكم وقيادة الدولة العراقية من خلال تبنيهم للدعوة الى نظام ديمقراطي ونظام اداري لا مركزي، ولكن بعكس هذه الرؤية الصائبة فان الأنظمة التي توالت على الحكم في بغداد اتجهت الى تطبيق مركزية مقيتة في الادارة مما تولدت عنها فقدان الهوية والخصوصية القومية والمذهبية والوطنية المحلية للمكونات العراقية مع انتهاج ايديولوجيات معينة بعيدة عن السمات الاساسية للمجتمع العراقي، وقد كان نظام البعث المباد نموذجا قاسيا وعنيفا للنظام الذي خمد كل التطلعات القومية والوطنية المحلية للمكونات العراقية.

واليوم يعيد نظام الأغلبية الحاكمة بقيادة حزب الدعوة ورئيسها نوري المالكي نفس المسار الضائع الذي سار عليه المعدوم صدام حسين ولكن تحت سلطة شيعية بعد ان كان هذا المكون يرضخ تحت حكم قيادة سنية طوال اكثر من ثمانين سنة، ونفس التباعد الذي زرعه البعث المقبور بين السنة والكرد وبين الشيعة والسنة يزرعه الان المالكي وجماعته المتسلطة بين نفس المكونات، ولكن التباعد الحاصل في الواقع الراهن تباعد غير قابل للتقارب ولا للالتئام، وهنا تكمن خطورة المالكي على واقع ومستقبل البلاد، وما يفعله هذا القيادي الشيعي بصفته رئيسا للحكومة في العاصمة الاتحادية هو موت بطيء للعراق الموحد الذي بقي صامدا ولو بهشاشته طوال قرن كامل.

والمشكلة ان هذه القراءة المنطقية والتحليلية للاحداث السياسية الجارية ما زالت بعيدة عن اعين بعض العراقيين، ولهذا نجد ان الجرح العراقي الكبير مازال بعيدا عن رؤية صائبة وحل سليم، ومازال الواقع السياسي بعيدا عن حالة وضع النقاط على الحروف، والغريب ان جل الحل الحكيم والمسار الصائب والنهج السليم يقتصر باقامة اقليم للسنة في المحافظات المحسوبة على السنة واقليم للمكون الشيعي في الجنوب وحل جدي للمادة (140) الدستورية في المناطق المتنازع عليها، وهذه الخارطة هي التي تمثل الرؤية الوطنية العراقية الحقيقية لاخراج وانقاذ البلاد من ازماتها السياسية المزمنة، والا فان التقسيم قادم وهو مدفوع من قبل اطراف عراقية وجهات اقليمية، وان لم يتحقق هذا الامر في السنوات القادمة فانه يتحقق بالتمام والكمال في نهاية العقد الراهن.

وفي الختام لابد من القول، وما قصدي من وراء هذا الا طرح الحقيقة المجردة التي نحن بأمس الحاجة اليها للاستناد اليها لبيان الوقائع وتحليل الاحداث التي يمر بها العراق، والله من وراء القصد.

اربيل ndash; كردستان العراق
[email protected]