قد يتبادر الى ذهن القارئ أن كاتب هذه السطور يقف في خندق مضاد للقومية العربية، وحاشا لله أن أكون كذلك، لكن قوميتي العربية التي أحبها وأعشقها تختلف عن قومية هؤلاء المترفين ممن يتخذون منها سبيلاً لابراز مواهب تغريدات حناجرهم، وتشميرهم عن يراعات ليسطّروا ما لا قيمة له في دفع عجلتها الى التقدم كما فعل الشرفاء منذ العروة الوثقى لقسطنطين زريق والى عبد الناصر وتجربته العملية التي تعثرت بفعل هذا الكمبرادور البرجوازي المترنم بالأنغام القومية، ويمارس من خلالها أعمالاً استهلاكية لا علاقة لها بالقومية الثورية التي آمن بها الشرفاء.
* * *
يزعم الذين خططوا لتأسيس (المؤتمر القومي العربي)، بأن التحولات الكبرى التي عصفت بالعالم منذ أواخر الثمانينيات، ومازالت، كان لها أثر كبير في إنضاج فكرة قيامه.
ويزعمون ndash; أيضاً ndash; أن عدداً من المفكرين والمثقفين العرب، قد راودتهم هذه الفكرة منذ عقدين ونيفٍ من الزمان على إنشائه.. لأنهم ndash; كما جاء في بيانهم ndash; أخذوا يتحسسون التحديات في هذه المرحلة العصيبة، وباعتبارهم نخبة عربية ملتزمة بقضايا أُمتها، قد تداعوا إلى التفكير والعمل، ومن ثم الإقتراب من جوهر المشكلات المتفاقمة، والمتغيرات المتسارعة، والخروج بتقويمات، وتصورات، وتوصيات عملية، للنهوض بالأمة من حاضرها المتعثر، والتوجه إلى الرأي العام العربي في محاولة رصينة ndash; كما يقولون ndash; لإضاءة شمعة في ليل الهزيمة والفرقة، ولبعث الحيوية في صفوف الجماهير المقهورة و المستكينة.
في هذا الاطار، أسسوا لأنفسهم لجنة تحضيرية، وإختاروا لها أسماء من مختلف البلدان، ثم دعوا إلى إنعقاد (المؤتمر القومي العربي) الأول.. بتونس في مارس عام (1990)، وحضره أكثر من ستين مشاركاً، ممن يؤمنون بأهداف الأمة العربية، وبضرورة إنجاز مشروعها الحضاري.. كما جاء في إعلانهم!!
وتقرر أن يعقد المؤتمر سنوياً، وجرى التوافق على غاية (المؤتمر القومي العربي) وهي: (شحذ) الوعي العربي بأهداف الأمة المتمثلة في مشروعها الحضاري الرامي إلى تحقيق: (الوحدة)، و(الديموقرطية)، و(التنمية المستقلة)، و(العدالة الإجتماعية)، و(الإستقلال الوطني القومي)، و(التجدد الحضاري).
هذه هي الأهداف التي يريد (المؤتمر القومي العربي) الذي مضى على تأسيسه أكثر من عشرين عاماً، ولم يقترب من بعيد أو قريب نحو أيٍّ منها، إلا بالخطابات، والكلمات الرنانة، والبيانات الفارغة، إلا من العنتريات!!.. وكما ورد في بيان الأمانة العامة: إن طريق المؤتمر إلى تحقيق ذلك كله يكمن في تعبئة الطاقات الشعبية، وإتخاذ المواقف المعبرة عنها، وتوثيق روابط التعاون والتنسيق مع الهيئات المماثلة، والتي تسعى إلى تحقيق هذه الأهداف.
وفي مايو عام (1991) عُقد إجتماع في عمّان لمناقشة مسودة النظام الأساسي، وأقر الأعضاء أحكامه التي تحدد مهمة المؤتمر، وكيفية تشكيله، ومهمات أمانته العامة، وعدد أعضائها، ومدة توليها المسؤولية.
وفي شهر أكتوبر من نفس العام، أقرت الأمانة العامة (للمؤتمر القومي العربي) أحكام نظامه الداخلي التي ترعى دقائق أجهزته، وعضويته، وتأليف أمانته العامة، ولجنته التنفيذية، وعملها، وماليته، وكيفية تعديله.
وجاء في المادة الأولى في التعريف بالمؤتمر: إنه تجمع من المثقفين من مختلف الأقطار العربية، ومن أجيال عدة، ممن لديهم إقتناع بأهداف الأمة العربية، والراغبين في متابعة العمل، من أجل تحقيق هذه الأهداف، وهو ndash; أي المؤتمر- يعمل على صعيد شعبي مستقل على أنظمة الحكم، وينعقد سنوياً للنظر في حال الأمة، ومناقشة قضاياها الحيوية، وله أن يكون فروعاً في الأقطار العربية، وخارجها.
والتناقض الغريب والصارخ، الذي يصطدم به من يقرأ ما ورد في بيان المؤتمر القومي العربي، الذي جاء فيه: إنهم يريدون تحقيق الوحدة، والديموقراطية، والعدالة الإجتماعية.. الخ.. الخ.. كل ذلك يتم من خلال ما ورد في المادة الأولى في الفقرة التي تقول: quot; ينعقد المؤتمر سنوياً للنظر في حال الأمة، ومناقشة قضاياها. quot;!!؟.. وبالنظر أو المناقشة تتحقق للأمة العربية أهدافها؟!
وفي المادة الثانية من أهداف المؤتمر، تم التأكيد على تحقيق الوحدة العربية، وذلك بالعمل على توثيق روابط التعاون، والتنسيق مع الهيئات ذات الأهداف المماثلة لهدف المؤتمر.
أين هذا التنسيق؟!.. هل إنبثقت لجنة من (المؤتمر القومي العربي) لتنسق مع الأحزاب والمنظمات والفصائل التي تنشط منذ سنوات في مواجهة إسرائيل؟!.. هل كان (للمؤتمر القومي العربي) أي نشاط يُذكر في الإنتفاضات المتتالية التي جرت وتجري فوق الأراضي الفلسطينية، هل لهم أي علاقة بالربيع العربي؟!.. أم أن الإكتفاء بلقاءات سنوية تتم في إحدى العواصم، والإقامة بفنادق خمس نجوم، والإستماع إلى تغريد الحناجر، وهي تترنم بالكلمات المنتقاة، بهدف تحقيق الوحدة، والديموقرطية.!!
وفي المادة الثالثة: حُدد الأعضاء بـ خمسين مدعواً كحد ٍ أدنى، ويعقد سنوياً في أحد الأقطار العربية؟!.. وهذا ما لم يحدث، حيث أن دعوات المؤتمر السنوية صارت توجه لأناس، ليست لهم أي فعالية على صعيد العمل القومي، وإنما يتم إستدعائهم لزيادة عدد الحاضرين، أما أن المؤتمر يُعقد سنوياً في أحد البلدان العربية، فهذا أيضاً لم يطبق تماماً، حيث عُقد المؤتمر خارج الوطن العربي.
وجاء في المادة الرابعة عن مالية المؤتمر، بأنها تتكون من موارد ومساهمات أعضاء التجمع، والتبرعات غير الحكومية التي لا تخل باستقلاليته، ويعتبر إسهام الأعضاء بالجهد والمال، تطوعياً؟!!..
طبعاً.. المطلوب من قارئ هذه المادة أن يلغي عقله، ويصدق ما جاء فيها من أن تذاكر الطائرات بالدرجة الأولى، والإقامة بفنادق خمس نجوم، ومرتبات شهرية، لأمانة عامة قوامها على أقل تقدير عشرة من الموظفين، إلى جانب الأمين العام ونوابه، كل هذا يتم تبرعاً، وتطوعاً!!
وفي المادة الخامسة: تم التأكيد على مدة إنتخاب الأمين العام، التي لا تتجاوز ثلاث سنوات.
وهذا ما لم يحدث، فالدكتور خير الدين حسيب تولى الأمانة العامة لعدة سنوات، وظل المسؤول الأول في المؤتمر حتى أثناء انتخاب وتولي أمين عام آخر، لأن انتخاب أمين عام غير الدكتور حسيب، ما هو إلا مسألة شكلية.
وقد ضمّت قائمة أعضاء (المؤتمر القومي العربي) أسماء كثيرة، معظمها ذات فعالية سياسية وثقافية، وقد تم الحرص على إنتقائها من شرائح سياسية ذات توجهات قومية ويسارية، معظمها عانت من الإخفاق في تحقيق إنجازات تُذكر، وجُلُهم من المحبطين بسبب ما تعرضت له الأمة العربية من نكسات، خاصةً عقب نكسة (67)، وما قبلها من نكسات.
ولما بدأت مسيرة (المؤتمر القومي العربي) بعقد إجتماعاته السنوية، التي كان يعقدها هنا وهناك، كثيراً ما كان ينتهي بإصدار بيانات باهتة، ذات صبغة خطابية، سرعان ما يتبخر تأثيرها، لأنها لا تحتوي على ما يتناسب وإحتياجات الأمة، من دراسات عملية وفعالة في ميادين الإقتصاد، أو الإجتماع، أو السياسة، كما يحدث في منظمات مشابهة أُنشئت في أوروبا وأمريكا مثل هيرتيج (HERITAGE )، التي تمثل تيار المحافظين البريطاني، والتي تسهم بشكل إيجابي وفعّال برفد بريطانيا بما تقدمه لها من بحوث ودراسات، تشتمل على كافة أنواع النشاط الحضاري والإنساني، وهي جمعية أهلية، تضم بين صفوفها عدداً من المفكرين والمثقفين، والسياسيين.
ومعهد بروكلين (BROKLIN INSTITUTE ) في أمريكا، وهو يمثل التيار الليبرالي، يقوم أيضاً بتقديم دراساته، وبحوثه التي تسفر عنها مناقشات أعضائه إلى الكونغرس الأمريكي، ومن ثم إلى الحكومة الأمريكية.
وهناك العشرات من الأمثلة لهذه النوعية من التجمعات في جميع أنحاء العالم، والبعض منها، صار يسهم في إتخاذ القرار السياسي والإقتصادي والإجتماعي في بلده..
فماذا قدم (المؤتمر القومي العربي) بعد عقدين من الزمان على إنشائه؟!
لقد حصر هذا المؤتمر نفسه في دائرة ضيقة وقصر أعماله على إنجازات ذات صبغة أيديولوجية محدودة، بسبب أن أعضاءه أنفسهم لا يمثلون شرائح المجتمع العربي الذي يتكون من موازييك واسع المشارب والأهواء..
بل إن المؤتمر قد أقفل الأبواب بوجه من لا يتفقون مع مزاج أعضائه، وهم يشكلون معظم الشرائح الإنسانية في الوطن العربي.. حتى مطبوعات (المؤتمر القومي العربي) قد نحت منحى شبه عنصري، عندما إقتصرت على أعمال محددة!!.. مثل طباعة مجلدات ضخمة، إحتوت الأعمال الكاملة لـ (ساطع الحصري) باعتباره من كبار المنظرين القوميين.. والحصري هذا موضع نزاع مثير للجدل، لدى الكثيرين في الأوساط العربية، وهو ليس عربي الجذور!!..
إضافة إلى إصدار مجموعة من الكتب، تضمنت دراسات وندوات، كان يقيمها المؤتمر، ومعظمها غير قابل للتطبيق العملي، ويدخل ضمن دائرة (الظواهر الكلامية).. ولو أمعنا النظر في تقييم العشرين سنة الماضية، التي كان (المؤتمر القومي العربي) يعقد فيها إجتماعاته السنوية وندواته، لاكتشفنا أن أكثر التحديات الصعبة التي واجهتها الأمة العربية، هي تلك التحديات التي نواجهها، ونعيشها في الفترة الراهنة، ولم نجد (المؤتمر القومي العربي) أية إسهامة فعالة، أو إيجابية، تحدد لنا ولو بصيصاً من أملٍ في مواجهتها، لأن البعض من أعضاء (المؤتمر القومي العربي) لهم إرتباطات حزبية، وميول سياسية، قد تصطدم مع ما يؤمنون به، وما يجري من أحداث.
وإذا كان هناك من يصدق أن (المؤتمر القومي العربي) لم يتلق دعماً من الأنظمة العربية، فإن واقع الحال يجيب بعكس ذلك.. وإلا كيف تسمح بغداد أثناء حكم صدام بعقد (المؤتمر القومي العربي) فوق أراضيها، دون أن يكون هناك إتفاق بين من خططوا لتأسيس هذا المؤتمر، ونظام بغداد؟!.. لأن معظم البيانات التي كانت تصدر سنوياً عن (المؤتمر القومي العربي) لم تُشر إلى تلك التجاوزات الصارخة، التي قام بها النظام العراقي حيال جيرانه، ولسياسة الإضطهاد والقمع التي يمارسها في الداخل.
بل إن تلك البيانات كثيراً ما كانت تجد الأعذار للممارسات الديكتاتورية، والسياسات العدوانية للنظام الديكتاتوري في العراق.
فـ (المؤتمر القومي العربي) إذاً كذبة، كذبها الذين صدقوها، واستمروا في تصديقها رغم إنكشاف أمرها للقاصي والداني.. أما الذين صدقوا ما ورد في (المؤتمر القومي العربي) من شعارات، تهدف إلى تحقيق الوحدة العربية، والديموقراطية، والعدالة الإجتماعية.. الخ.. الخ.. فقد ثبت لهم أنها مجرد شعارات، هي أشبه ما تكون بالفقاعات الهوائية، بعد أن أثبتت تجربة عشرين سنة من الإجترار والتكرار الممجوج والممل.. وهذا ما يضيف إلى نكساتنا، نكسة مأساوية!!..
فمؤتمر كهذا، إنما هو مضيعة للوقت، وللجهد، لأنه يقوم على أساس هش!!..